تكشف الأرقام الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، بمناسبة اليوم العالمي للاجئين، عن واقع مأساوي ومتفاقم يعكس حجم الكارثة الإنسانية المستمرة التي يواجهها الشعب الفلسطيني، بعد أكثر من سبعة عقود من النكبة، وفي ظل عدوان مستمر فاق كل المقاييس منذ أكتوبر 2023. هذه الأرقام لا تمثل مجرد إحصاءات باردة، بل تُعد مؤشرات عميقة على التهجير القسري، والتطهير العرقي، والانهيار الشامل للأوضاع المعيشية والإنسانية، سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية أو في الشتات.
نزوح داخلي هائل
أبرز ما تكشفه المعطيات هو حجم اللاجئين الفلسطينيين الذين تجاوزوا 5.9 مليون لاجئ مسجل لدى وكالة الأونروا، يمثلون الكتلة السكانية الأكثر تشتتًا في العالم، ويدل ذلك على أن نكبة 1948 لم تكن حدثًا تاريخيًا منتهيا، بل عملية مستمرة تتوالى فصولها حتى اليوم، كما يتضح من الأرقام المرتبطة بالنزوح الداخلي الهائل داخل قطاع غزة، والذي بلغ نحو مليوني نازح، أي ما يفوق 90% من سكان القطاع، وهو ما يشكل أكبر موجة تهجير في تاريخه.
وتكشف المعطيات عن طبيعة السياسات الإسرائيلية التي تسعى إلى إعادة إنتاج النكبة بمسميات وأساليب جديدة، حيث لم يعد الأمر يقتصر على تهجير الفلسطينيين من قراهم ومدنهم، بل أصبح يرتبط الآن بإعادة تهجيرهم مرارًا ضمن أماكن النزوح ذاتها، وسط تدمير شامل للبنية التحتية والمساكن، وتحويل غزة إلى أرض قاحلة غير قابلة للحياة. ومن الدلالات البالغة الخطورة أن نحو 17 ألف طفل فقدوا كلا والديهم، ما يعني ولادة جيل كامل بلا حاضنة أسرية، وهو مؤشر على جريمة تمتد إلى ما هو أبعد من الحرب المباشرة، لتضرب النسيج الاجتماعي الفلسطيني في العمق.
رسم الخارطة الديموغرافية الفلسطينية
في المقابل، تكشف الأرقام المتصلة بالضفة الغربية عن تصعيد غير مسبوق في سياسات التهجير المنظم، خاصة في شمال الضفة، عبر عمليات اقتحام ممنهجة لمخيمات اللاجئين، وما رافقها من تدمير للمنازل وتفريغ للأحياء، كما هو الحال في جنين وطولكرم ونور شمس. والأخطر من ذلك هو توثيق حالات النزوح الواسعة، التي شملت ما نسبته 30% من سكان جنين ومخيمها، في مشهد يعيد إلى الأذهان سنوات النكسة والتهجير الأول.
ويتضح من السياق العام أن التهجير والنزوح لم يعودا استثناءً، بل تحولا إلى سياسة ثابتة ومنهجية تسعى من خلالها إسرائيل إلى إعادة رسم الخارطة الديموغرافية الفلسطينية، عبر الضغط المستمر على مناطق الكثافة السكانية، وهدم البنية السكانية والاجتماعية القائمة، في محاولة لفرض وقائع جديدة على الأرض.
تدفق المهاجرين اليهود إلى فلسطين
وتشير البيانات المتعلقة بعدد الشهداء، الذي تجاوز 55 ألفاً في غزة وحدها، وأكثر من 990 شهيداً في الضفة، إلى أن هذه الأرقام لا تعبّر فقط عن ضحايا الحروب، بل عن نمط من القتل المستمر الذي أصبح أداة بيد الاحتلال لفرض مشروعه الاستعماري بالقوة. ويتجلى ذلك بوضوح في ارتفاع أعداد الأطفال والنساء بين الشهداء، وهو ما يكشف أن المدنيين باتوا هدفًا مباشرًا في هذا العدوان، خلافًا لما تروّج له الرواية الإسرائيلية الرسمية.
أما على المستوى التاريخي، فتدل البيانات المتعلقة بتدفق المهاجرين اليهود إلى فلسطين منذ ثلاثينيات القرن الماضي، على الطابع المصطنع والمفروض للمشروع الاستيطاني، والذي لم يكن في أي لحظة وليدًا لتطور طبيعي أو ديموغرافي، بل نتيجة ضخ استيطاني هائل، تسارعت وتيرته بعد نكبة 1948، حتى باتت إسرائيل دولة قائمة على الترحيل الجماعي والاستيطان القسري، في مقابل واقع فلسطيني تتآكل فيه الأرض وتُسحق فيه الهوية.
الأخطر من كل ما سبق، أن الأرقام تؤكد التآكل المستمر في الكتلة السكانية الفلسطينية داخل القطاع، بانخفاض يُقدر بـ10% في عدد سكان غزة مقارنة بالتوقعات، وهو ما يُعبّر عن شدة الفقد، سواء بالقتل أو التهجير أو النزوح أو فقدان مقومات الحياة الأساسية.
وثائق اتهام مباشرة ضد الاحتلال
في المحصلة، فإن هذه الأرقام تؤسس لرواية موثقة عن استمرار النكبة الفلسطينية بشكل متسلسل ومتعدد الأبعاد، وتُظهر أن المشروع الاستعماري الإسرائيلي لم يكتف بإنشاء “دولة” على أنقاض الشعب الفلسطيني، بل يسعى إلى استكمال مخططه عبر محو الوجود الفلسطيني مادياً واجتماعياً ونفسياً.
وينبغي ألا تكون هذه الأرقام فقط جزءاً من التقارير الإحصائية، بل يجب أن تُعامل كوثائق اتهام مباشرة ضد نظام الاحتلال، أمام المحافل الدولية التي ما زالت تتعامل مع المأساة الفلسطينية كأمر واقع يجب التكيّف معه، لا كجريمة مستمرة تستدعي المحاسبة والرد.