في بلدة بيت حنينا، شمال القدس، ساد الصمت صباحًا إلا من صوت المعاول وهي تهدم جدرانًا لطالما حملت ضحكات الأطفال، وذكريات العائلة، وأحلامًا صُنعت في حجر. لم تكن الجرافات الرسمية هي من قامت بذلك، بل كانت أيدي أصحاب البيت أنفسهم، ينهار الحجر أمامهم، وتنهار معه أرواحهم بصمت يليق بالخذلان.
لا رحمة في زمن الطوارئ
عائلة علون، مثل كثير من العائلات الفلسطينية في الضفة الغربية، لم ترتكب جريمة، ولم تعتدِ على أحد. كل ما فعلته أنها بنت منزلًا يأوي أبناءها، على أرضها، وتحت سماء وطنها. قبل عشرين عامًا، بنى رامي علون بيتًا صغيرًا يحتضن عائلته، ولحقه نجله محمد ببيت ثانٍ يأوي أسرته الجديدة. ولكن في مدينة يُطلب فيها المستحيل، كان الترخيص حلماً أقرب إلى العبث، رغم محاولات مضنية دامت سنوات طويلة، لم تترك العائلة فيها بابًا إلا وطرقته، أملاً في حماية مأواها من الهدم.
لكن البلدية أصرّت على قرارها. لا رحمة في زمن الطوارئ، ولا اعتبار لحرب تهدد الجميع، فحتى في أحلك الأوقات، لا تتوقف جرافات الاحتلال عن الهدم، ولا تغمض عيونها عن اقتحام البيوت وسلب الأمان.
الهدم الذاتي بقوة السلاح
لم يكن أمام العائلة من خيار سوى تنفيذ “الهدم الذاتي”، وهو مصطلح تختصر فيه السلطة الاحتلالية معاني الإذلال. أن تهدم بيتك بيدك، يعني أن تكسر قلبك كل يوم، حجرًا حجرًا، نافذة نافذة، وربما تلتقط يدك ألعاب أطفالك من تحت الركام، قبل أن تنهار الغرفة التي وُلدوا فيها.
ثمانية أفراد في بيت رامي، وستة آخرون في بيت محمد، وجدوا أنفسهم فجأة بلا سقف، وبلا جدران، يواجهون الغد بما فيه من برد أو حر، من ذل أو تجوال. كثيرون من أمثالهم يفترشون الأرض لدى أقاربهم، أو يقطنون غرفًا صغيرة مستأجرة، أو يقيمون في خيم لا تقي من حر ولا برد، وبعضهم لا يجد شيئًا سوى العراء والانتظار.
في مشهد يبدو سرياليًا، يحمل الأب المطرقة ويضرب جدارًا بناه بيديه قبل عشرين عامًا، تنظر الأم من بعيد، تكتم شهقتها، بينما يلعب الأطفال بين الأنقاض، لا يدرون أنهم أصبحوا لاجئين داخل وطنهم، بلا بيت، ولا عنوان.
سياسة ممنهجة
تتواصل مآسي هدم البيوت، وتتسع رقعتها، لتصيب مئات العائلات، وأحيانًا دون سابق إنذار. والمأساة لا تتوقف عند لحظة الانهيار، بل تبدأ منها، في رحلة طويلة من التهجير الداخلي، والتشريد المقنّن، والسؤال الدائم: أين نذهب الآن؟
هذا الواقع، الذي يتكرر كل يوم في قرى ومدن الضفة الغربية، لا يُعد حدثًا عابرًا، بل جزء من سياسة ممنهجة تدفع الفلسطيني إلى الهامش، وتحوله من صاحب أرض إلى باحث عن مأوى. فليس كل من يهدم بيته في الضفة يخسر حجارة فقط، بل يخسر جزءًا من ذاته، من كرامته، ومن عمره الذي زرعه في جدران لم تدم.
هكذا يرحلون عن بيوتهم، لا برغبتهم، بل تحت وطأة قرار لم يكن فيه للعدل مكان.