فيما يشبه الزلزال القضائي، تعيش المحكمة الاتحادية العليا في العراق حالة غير مسبوقة من الانقسام والاضطراب، بعد أن توالت الاستقالات من صفوف أعضائها الرئيسيين والاحتياط، على خلفية ما بات يعرف بأزمة “خور عبدالله”. فقد أكدت مصادر مطلعة، يوم الخميس، استقالة ستة من القضاة الأساسيين وثلاثة من الاحتياط، احتجاجاً على ما وصف بأنه تدخل سياسي سافر في عمل المحكمة، وتحديداً في قضية الاتفاقية البحرية مع الكويت.
وتعود جذور الأزمة إلى القرار المثير للجدل الذي أصدرته المحكمة الاتحادية العليا في سبتمبر 2023، والذي قضى بعدم دستورية قانون التصديق على اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبدالله، الموقعة بين العراق والكويت عام 2013. وقد استند القرار إلى أن المصادقة على الاتفاقيات الدولية يجب أن تتم بأغلبية الثلثين من أعضاء البرلمان، وفقاً للمادة 61/رابعاً من الدستور العراقي، وهو ما لم يتحقق، بحسب المحكمة.
تحرك السلطة التنفيذية والطعن القضائي
لم يمر قرار المحكمة دون رد فعل رسمي، إذ بادر كل من رئيس الجمهورية عبد اللطيف رشيد ورئيس الوزراء محمد شياع السوداني إلى تقديم طعنين منفصلين منتصف أبريل 2024، طالبا فيهما المحكمة نفسها بإعادة النظر في قرارها. وأكد الطاعنان أن الاتفاقية لا تتعلق بترسيم الحدود، بل بتنظيم الملاحة فقط، وتدخل ضمن التزامات العراق الدولية التي لا يجوز التراجع عنها.
إلا أن ما بدا في ظاهره سجالاً قانونياً تحوّل إلى أزمة مؤسساتية عميقة، بعد أن بدأت الضغوط السياسية تتكثف على المحكمة بهدف دفعها إلى مراجعة قرارها. وهنا تحديداً انفجرت الأزمة الداخلية، حيث رأى عدد من القضاة أن استقلاليتهم تتعرض للتقويض، فاختاروا الاستقالة كخطوة احتجاجية صاخبة، أطلقت صفارات الإنذار حول مستقبل القضاء في العراق.
ردود سياسية وتحذيرات من انهيار المؤسسات
النائب محمد الخفاجي، عضو اللجنة القانونية في البرلمان، وصف ما حدث بأنه “غير طبيعي”، داعياً إلى التريث في إطلاق الأحكام إلى حين ظهور الحقائق كاملة. في المقابل، كان زميله رائد المالكي أكثر وضوحاً، إذ أكد أن المحكمة تتعرض لضغوط من “الحكومة وجهات أخرى”، وأن تلك الجهات تريد تحويل المحكمة إلى “أداة طيعة لتنفيذ رؤاها”، وهو ما رفضه القضاة المستقيلون، بحسب قوله.
وأضاف المالكي أن ما يحدث يكشف فشل القوى السياسية، ولا سيما الشيعية منها، في بناء دولة مؤسسات تحترم الدستور والقانون، محذراً من أن ما جرى يمثل سابقة خطيرة تهدد البنية الدستورية للدولة العراقية.
التوترات داخل المحكمة: إدارة أم استقطاب سياسي؟
بعيداً عن السجالات السياسية، تسربت إلى الإعلام معلومات إضافية تشير إلى وجود خلافات إدارية ومهنية بين القضاة المستقيلين ورئيس المحكمة الاتحادية، تتعلق بطريقة إدارة الملفات وتعاطي الرئاسة مع بقية الأعضاء. كما تحدثت مصادر عن استياء متصاعد من قرارات صادرة عن مجلس القضاء الأعلى، ما زاد من منسوب الاحتقان.
هذه المعطيات توحي بأن ما يجري لا يتصل فقط بقرار قانوني بخصوص اتفاقية معينة، بل يرتبط بأزمة ثقة داخل أعلى مؤسسة قضائية في البلاد، ويعكس صراعاً متراكماً حول صلاحيات المحكمة، وآليات اتخاذ القرار فيها، ومدى استقلالها عن الضغوط السياسية والإدارية.
فراغ تشريعي وتأثيرات بنيوية
يعزو عدد من الخبراء القانونيين والسياسيين هذا الوضع إلى غياب قانون خاص ينظم عمل المحكمة الاتحادية. فحتى اللحظة، لا تزال المحكمة تعمل وفق قانون مؤقت أقرته سلطة الائتلاف المؤقتة عام 2005. هذا الفراغ التشريعي، الذي لم تنجح القوى السياسية في ملئه حتى الآن، يفتح المجال واسعاً للتأويلات والتدخلات، ويجعل المحكمة عرضة للتجاذبات الحزبية والطائفية، خصوصاً مع اعتماد المحاصصة في ترشيح أعضائها.
وتتزايد الدعوات في الأوساط السياسية والقانونية لتمرير قانون المحكمة الاتحادية، كخطوة أساسية نحو ضمان استقلالها وتعزيز ثقة الجمهور بها. فوجود نص تشريعي واضح يحصّن آليات عمل المحكمة ويحد من التدخلات قد يكون صمام أمان لبناء سلطة قضائية مستقلة فعلاً، لا مجرد هيئة دستورية محاصرة بين ضغوط السياسة ومناورات الكواليس.
أزمة القضاء أم أزمة النظام؟
إن ما يجري داخل المحكمة الاتحادية العراقية لا يمكن قراءته بمعزل عن السياق الأوسع للأزمة السياسية والمؤسساتية في البلاد. فالقضاء، الذي يفترض أن يكون الملاذ الأخير لحماية الدستور وتكريس الشرعية، بات هو نفسه موضع شك وتساؤل. وإذا كان استقلال السلطة القضائية هو أحد الأعمدة الرئيسية لأي نظام ديمقراطي، فإن تصدع هذا الاستقلال ينذر بانهيارات أعمق في بنيان الدولة.
قضية خور عبدالله، التي بدأت كخلاف قانوني بشأن اتفاقية بحرية، تحولت اليوم إلى مرآة عاكسة لأزمة الحكم في العراق، ولحجم التحديات التي تواجه مؤسسات الدولة في ظل نظام سياسي هش ومحكوم بتوازنات هشة. ولعل السؤال الأهم الذي يفرض نفسه بعد هذه العاصفة القضائية هو: هل تستطيع الدولة العراقية إعادة بناء منظومتها القضائية على أسس سليمة؟ أم أن الأزمة الحالية ليست سوى مقدمة لسلسلة من الانهيارات القادمة؟