تعيش غزة حالة سياسية شديدة التعقيد في ظل التصعيد الإقليمي بين إسرائيل وإيران، حيث انزاحت محادثات وقف إطلاق النار عن واجهة المشهد، ليطغى غبار المواجهة العسكرية بين تل أبيب وطهران على جهود التهدئة. وفي وقتٍ كانت فيه الآمال معلقة على تقدم في مسار المفاوضات بوساطة قطرية ومصرية وأميركية، جاءت العمليات العسكرية المتبادلة بين إيران وإسرائيل لتعيد الملف الفلسطيني إلى الخلف، وتضعه في موقع هامشي على أجندة اللاعبين الدوليين.
حل إنساني في غزة
الرهان الإسرائيلي على كسر إيران عسكرياً يحمل أبعاداً تتجاوز الجغرافيا الإيرانية؛ إذ ترى إسرائيل أن إضعاف طهران سينعكس مباشرة على بنية «حماس» في غزة، باعتبارها أحد أبرز المستفيدين من الدعم الإيراني. ولهذا، فإن تركيز نتنياهو على الجبهة الإيرانية لا يُفسَّر فقط كجزء من معركة ردع إقليمية، بل أيضاً كتكتيك يخدم أهدافه في غزة على المدى القريب، ويعزّز من أوراقه السياسية داخلياً.
هذا التحول في الأولويات انعكس مباشرة على ملف التهدئة في القطاع. فرغم تصريحات نتنياهو التي بدت إيجابية في بداية التصعيد مع إيران، وحديثه عن تفويض الفريق المفاوض، فإن الواقع السياسي لا يشير إلى جدية إسرائيلية في الدفع الفعلي نحو اتفاق هدنة، بقدر ما يعكس رغبة في تهدئة الرأي العام الدولي المتعطش لحل إنساني في غزة. أما على الأرض، فالتصعيد الإسرائيلي لم يتوقف، والعمليات العسكرية تتواصل، مخلفةً يوميًا عشرات الشهداء في القطاع، خصوصًا في محيط مراكز توزيع المساعدات، في ظل أزمة إنسانية متفاقمة.
جمود المفاوضات
من جانبها، تواصل الوساطات الإقليمية والدولية حركتها الدبلوماسية، لكن دون أي اختراق حقيقي. فالمفاوضات تعاني من حالة “جمود نشط”، حيث تُجري الفرق الأمنية والفنية محادثات تقنية، في حين أن القرار السياسي لا يزال مُعلّقًا بانتظار نهاية المواجهة الإيرانية – الإسرائيلية، التي لم تتضح ملامح نهايتها بعد. هذا الوضع يجعل مصير اتفاق الهدنة في غزة مرهونًا بمآلات صراع أكبر لا يملك الفلسطينيون أدوات التأثير فيه، وهو ما يزيد من هشاشة المشهد.
الأخطر من ذلك، أن استمرار التصعيد يُغلق نافذة الوقت أمام حل تفاوضي سريع. فكلما طال أمد الحرب الإسرائيلية مع إيران، كلما ارتفعت كلفة الحرب في غزة – بشريًا وإنسانيًا وسياسيًا – وكلما باتت التفاهمات أصعب. كما أن غياب الغلبة الواضحة لأي طرف في المواجهة الإقليمية يجعل إسرائيل غير معنية بالتنازل الآن، في وقتٍ ترى فيه أن الضغط المتزامن على «حماس» في الداخل والخارج قد يُنتج نتائج أفضل لاحقًا.
غزة في طي النسيان
وفي ظل هذا السياق، تتحول غزة إلى ساحة معزولة، تدفع وحدها ثمن الحسابات الإقليمية، في وقتٍ يتضاءل فيه الاهتمام العالمي الفعلي بمعاناة السكان، ويُستبدل بخطابات دبلوماسية جوفاء لا تجد طريقها إلى التطبيق. وبينما تنشغل القوى الدولية بتقليل التصعيد بين طهران وتل أبيب، تذوب مأساة غزة في زحام التوازنات، ويُترك المدنيون لمصيرهم، في انتظار اتفاق قد لا يأتي قريبًا.