في خضم الحرب المستعرة بين إيران وإسرائيل، تعرّضت روسيا لسيل من الانتقادات من قبل سياسيين ونشطاء إيرانيين، الذين اتهموها بالتخاذل في دعم الجمهورية الإسلامية، رغم الشراكة الاستراتيجية المعلنة بين البلدين. واقتصر الموقف الروسي، بحسب منتقديها، على التنديد اللفظي بالضربات الإسرائيلية والأميركية، دون ترجمة ذلك إلى خطوات عملية ملموسة على الأرض.
في المقابل، نفت موسكو تلك الاتهامات، معتبرة أنها صادرة عن جهات “تسعى للتشويش” على العلاقات العميقة التي تربطها بطهران، دون أن تسمي هذه الأطراف.
بين الحياد المعلن والمصالح المركّبة
يرى مراقبون أن الموقف الروسي لا ينبع من تخلٍّ عن إيران، بل من حرص موسكو على الحفاظ على توازن دقيق في علاقاتها الشرق أوسطية. فروسيا، الغارقة في مواجهة العقوبات الغربية على خلفية غزوها لأوكرانيا عام 2022، لا ترغب في فتح جبهة صراع جديدة قد تستنزفها سياسيًا وعسكريًا.
وبينما تُحافظ روسيا على تنسيق أمني وثيق مع إسرائيل، لا سيما في الساحة السورية، فإنها تتوجّس من أن يؤدي أي دعم عسكري مباشر لإيران إلى مواجهة إقليمية مفتوحة، قد تُطيح بدورها كوسيط إقليمي وتضر بمصالحها الممتدة من المتوسط إلى الخليج.
إيران تشعر بالعزلة وتُعيد تقييم تحالفاتها
ذكرت مصادر إيرانية لوكالة “رويترز” أن طهران غير راضية عن موقف موسكو، وتعتبر أن الحليف الروسي لم يرتقِ إلى مستوى الالتزام، لا سيما بعد الهجمات الأميركية على منشآتها النووية. وعلى الرغم من اتفاقية التعاون الشامل التي وقعتها موسكو وطهران في يناير/كانون الثاني، فإنها لا تتضمّن بندًا للدفاع المشترك، ما يُسقط عنها صفة “الميثاق الدفاعي” الكامل.
تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التي أدان فيها الضربات الأميركية وعبّر عن “السعي لمساعدة الشعب الإيراني”، جاءت عامة ومبهمة، دون التطرق لأي التزام عسكري أو دعم ميداني مباشر، ما زاد من حدة خيبة الأمل الإيرانية.
المقارنة بسوريا: ذاكرة التحالفات المتآكلة
عودة الحديث عن “نموذج سوريا” كان لافتًا في الخطاب الإيراني الداخلي. فقد استُحضرت تجربة روسيا في عام 2024 عندما رفضت التدخل لحماية نظام بشار الأسد بعد فقدانه السلطة، ما أُعتبر حينها تحولًا في أولويات الكرملين. وتُطرح الآن مخاوف مشابهة في طهران حول مدى موثوقية الدعم الروسي إذا واجهت إيران خطرًا استراتيجيًا أكبر.
المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف سعى لطمأنة الإيرانيين، مؤكدًا أن بلاده “اتخذت موقفًا واضحًا”، وذكر أن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي قدّر ذلك الموقف خلال لقائه مع بوتين، نافياً في الوقت نفسه أن يكون الرئيس الروسي قد تلقى رسالة مكتوبة من المرشد الأعلى علي خامنئي، كما زعمت وكالة “رويترز”.
وقف إطلاق النار… مكسب روسي من دون كلفة
في تطور لافت، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب وقفًا شاملًا لإطلاق النار بين إيران وإسرائيل، بعد 12 يومًا من المواجهات التي شهدت موجات نزوح من طهران وأثارت مخاوف من تصعيد إقليمي واسع. ورحّبت روسيا بهذا الإعلان، معتبرة أنه يتماشى مع موقفها الثابت منذ بداية الحرب.
وأشاد الكرملين بدور قطر في التوسط لتحقيق هذا الاتفاق، وعبّر عن أمله بأن يكون وقف إطلاق النار دائمًا وقابلاً للتطبيق، ما يسمح بتهدئة الوضع دون أن تضطر موسكو إلى تقديم التزامات ميدانية أو خوض مواجهة مباشرة.
تحليل: روسيا في موقع المتفرج القوي
الموقف الروسي يعكس نموذجًا واقعيًا للسياسة الدولية القائمة على البراغماتية الباردة. فموسكو، ورغم تحالفها الوثيق مع طهران، تدرك أن الاصطفاف الكامل مع إيران قد يُضعف نفوذها في مناطق أخرى من الشرق الأوسط، ويقوّض علاقاتها مع أطراف متعددة، خاصة إسرائيل.
وبالتالي، فإن روسيا تراهن على لعب دور الوسيط والضامن، وليس المقاتل، في أي نزاع شرق أوسطي، وهو ما يفسّر توازنها الحذر، وعدم تجاوبها مع الدعوات الإيرانية لتدخّل عسكري مباشر.
خاتمة: بين الشراكة والتوظيف السياسي
تكشف التطورات الأخيرة هشاشة بعض التحالفات الاستراتيجية في المنطقة، خصوصًا عندما تُختبر في ميادين الصراع المباشر. إيران تدرك اليوم أن شراكتها مع موسكو ليست شبيهة بتحالفات الدفاع المشترك، بل هي شراكة تقوم على تلاقي المصالح المؤقتة، وليست ضمانة أمنية.
أما روسيا، فهي تثبت مرة أخرى أنها تتقن لعبة المصالح، وتفضّل إدارة التوازنات على خوض المغامرات. وربما تكمن قوتها في قدرتها على تفادي الانحياز الكامل، حتى لو كلفها ذلك غضب الحلفاء.