تعكس الأرقام الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، وخاصة ما أعلنه رئيس قسم الديموغرافيا حاتم قرارية، صورة صادمة ومفزعة لما تعرّض له الشعب الفلسطيني منذ نكبة عام 1948 وحتى اليوم. هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات جامدة، بل توثيق دامٍ لواقع متواصل من القتل والتهجير ومحاولات الاقتلاع، يحمل في طياته ملامح الإبادة والتطهير العرقي.
أرقام صادمة
فمنذ النكبة وحتى منتصف عام 2025، تجاوز عدد الشهداء الفلسطينيين حاجز الـ157 ألف شهيد، توزّعوا بين الداخل والخارج، وهو رقم يعكس عمق المأساة التي يعيشها هذا الشعب، واستمرارية النزيف لعقود دون توقف. في قطاع غزة وحده، سقط أكثر من 57 ألف شهيد، ما يعني أن هذا الجزء الصغير من الأرض تحوّل إلى مسرح دائم للمجازر. الأشد مأساوية أن نحو 70% من هؤلاء الشهداء هم من النساء والأطفال، وهو ما يدحض أي مزاعم عن استهداف عسكري “دقيق”، ويكشف عن استهداف مباشر للبنية السكانية والمجتمع المدني الفلسطيني.
وفي ظل العدوان المتواصل على قطاع غزة منذ أكتوبر، تجاوز عدد المفقودين 11 ألف شخص، غالبيتهم من الأطفال والنساء، ما يؤشر على كارثة إنسانية لا تزال أبعادها الكاملة غير معلومة بعد، ويطرح تساؤلات مقلقة حول مصير هؤلاء وطرق التوثيق والمتابعة في ظل الانهيار الكامل للخدمات.
موجات تهجير جماعي
الأرقام لا تتوقف عند الضحايا المباشرين، بل تمتد إلى التغيير الديموغرافي العميق الذي تشهده الأراضي الفلسطينية. عدد سكان قطاع غزة انخفض إلى 2.1 مليون نسمة، أي بنسبة تقارب 10% من التوقعات السكانية لعام 2025، نتيجة للقتل المباشر، وفقدان الأمان، والنزوح الجماعي، وهو ما يؤكد أن ما يجري ليس فقط استهدافًا جسديًا، بل تفريغًا ممنهجًا للمنطقة من سكانها.
النزوح الداخلي غير المسبوق – حيث اضطر نحو مليوني شخص إلى مغادرة منازلهم – يُعتبر الأكبر في تاريخ الفلسطينيين الحديث، ويشكل تهديدًا مباشرًا للهوية الوطنية الفلسطينية، عبر محو الرموز الاجتماعية والثقافية والمكانية التي تشكّل أساس الهوية. وفي الضفة الغربية، يتكرّر المشهد، حيث شهدت مدن مثل جنين وطولكرم موجات تهجير جماعي، بعد اجتياحات متكررة، خلّفت أكثر من 42 ألف نازح، ما يعادل ثلث سكان بعض المناطق، وخاصة في مخيم جنين.
الاستهداف لم يقتصر على المدنيين، بل طال العاملين في المجال الإنساني، حيث استشهد 203 من موظفي الأونروا، ما يعكس حجم المخاطر المحدقة بكل من يحاول تقديم العون أو الإغاثة في غزة، ويعني أن الحرب لم تترك أي هامش للإنسانية أو العمل الدولي.
تفكيك البنية الديموغرافية الفلسطينية
أما على مستوى الشتات، فإن نحو 7.8 مليون فلسطيني يعيشون خارج فلسطين، بينهم 6.5 مليون في الدول العربية، ما يُظهر حجم الجرح المفتوح المستمر منذ 76 عامًا، ويعكس استمرار النكبة بشكلها السياسي والاجتماعي، مع فشل المجتمع الدولي في ضمان حق العودة أو إنهاء الاحتلال.
كل هذه المعطيات تشير إلى أن ما يحدث لا يمكن التعامل معه باعتباره مجرد تصعيد عابر أو نتائج حرب تقليدية، بل هو مشروع مدروس لتفريغ الأرض من سكانها الأصليين وتفكيك البنية الديموغرافية الفلسطينية. وفي ظل هذا الواقع، يصبح التوثيق، والتحرّك القانوني، والمواجهة الإعلامية والدبلوماسية ضرورة لا خيارًا، لحماية ما تبقى من الوجود الفلسطيني ومنع استكمال فصول النكبة الجديدة التي تعيد إنتاج المأساة بصورة أشد قسوة.
ورغم كل ذلك، لا تزال الرواية الفلسطينية ثابتة، ومتشبثة بحق لا يسقط بالتقادم، بل يتجدّد يومًا بعد يوم بدماء الشهداء وصمود النازحين، ما يجعل من النضال من أجل العدالة واجبًا أخلاقيًا وإنسانيًا أمام هذا الحجم الهائل من المأساة.