مخيم جنين يعيش منذ ستة أشهر في قلب مأساة إنسانية عميقة، تختزل حجم الدمار والتهجير الذي خلّفته سياسة الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية. العملية العسكرية المستمرة تحت مسمى “السور الحديدي” تجاوزت حدود الأمن، وتحولت إلى سياسة ممنهجة لتفريغ المخيم من سكانه، وتدمير بنيته التحتية، وتجريده من مقومات الحياة الأساسية.
الأرقام تُجسّد حجم الكارثة
المخيم الذي يشكّل رمزًا للمقاومة والصمود الفلسطيني، لم يواجه فقط تدميرًا ماديًا طال منازله وشوارعه، بل تعرّض لمحاولة اقتلاع سكاني ممنهج. فبحسب رئيس بلدية جنين، محمد جرار، تم تدمير ما يقارب 350 وحدة سكنية، إضافة إلى 680 وحدة أخرى كانت مهدّمة سابقًا، ما يجعل نحو 40% من المخيم غير صالح للسكن. هذه الأرقام تُجسّد حجم الكارثة التي لا تقتصر على البنية العمرانية فحسب، بل تمتد لتطال الحياة اليومية لسكان كانوا يعيشون في ظروف أصلاً هشة.
أخطر ما في المشهد هو حالة النزوح القسري واسعة النطاق. أكثر من 24 ألف مواطن من سكان المخيم والمدينة أصبحوا بلا مأوى، يشكّلون نحو ربع سكان جنين، في نزوح داخلي أشبه بترانسفير صامت. البعض لجأ إلى استئجار منازل في المدينة وضواحيها، بينما تم تأمين 700 عائلة فقط في 23 عمارة سكنية بمحيط الجامعة العربية الأمريكية، وهي حلول مؤقتة لا تفي بالاحتياجات المتزايدة للنازحين، الذين يعانون من نقص دائم في الخدمات، وانعدام الأمن النفسي والمستقبلي.
كسر إرادة المجتمعات الفلسطينية
تأتي هذه الأزمة في ظل تراجع واضح في دور المجتمع الدولي. فرغم تدخل الحكومة وتقديم بعض المساعدات النقدية، فإن حجم الأزمة يتجاوز بكثير الإمكانات المتاحة. الحصار المالي، وغياب خطة إنقاذ وطنية شاملة، يتركان مخيم جنين وسكانه أمام واقع مفتوح على احتمالات مريرة: استمرار النزوح، أو العودة إلى ركام غير قابل للترميم السريع.
ما يجري في مخيم جنين ليس مجرد حدث أمني أو ميداني، بل هو جزء من سياسة مستمرة تهدف إلى كسر إرادة المجتمعات الفلسطينية، وفرض واقع جديد من التهجير البطيء. ومع كل يوم يمر دون تدخل جاد واستراتيجي، يترسخ الخطر الأكبر: أن يتحول النزوح المؤقت إلى دائم، وأن يُمحى المخيم من الجغرافيا والديموغرافيا معًا.
إن الحاجة اليوم ماسة إلى تحرك فوري يشمل خطط إعادة إعمار، ودعم دائم للنازحين، وتأمين الحد الأدنى من الاستقرار النفسي والاجتماعي لهؤلاء السكان الذين صمدوا لعقود، ويواجهون اليوم واحدة من أعقد الأزمات في تاريخ المخيمات الفلسطينية.