نظم “حزب الله” استعراضًا مسلحًا في منطقة زقاق البلاط وسط بيروت، على بُعد أمتار من مقر الحكومة، ما فجّر موجة واسعة من الانتقادات، خاصة من رئيس الوزراء نواف سلام، الذي وصف الاستعراض بأنه “غير مقبول على الإطلاق” وطالب بملاحقة المشاركين فيه قانونيًا.
رسالة استعراض القوة في قلب العاصمة
الاستعراض الذي تزامن مع إحياء ذكرى عاشوراء، شهد مشاركة مقاتلين مسلحين يجوبون الشوارع حاملين رشاشاتهم ومرددين شعارات حماسية من قبيل: “لبيك حزب الله”، في رسالة واضحة للداخل والخارج بأن سلاح الحزب ما زال خارج سلطة الدولة، وأن التهديدات أو الضغوط لن تنزع منه هذه الورقة، التي لطالما شكّلت نقطة خلاف مركزية في المشهد اللبناني.
توقيت العرض وطبيعته أظهرا – بحسب مراقبين – إصرار الحزب على التأكيد أن أي حديث عن نزع سلاحه ليس سوى “وهم سياسي”، في وقت تسعى فيه الحكومة الجديدة، بقيادة الرئيس جوزيف عون ورئيس الوزراء نواف سلام، إلى إقناع المجتمع الدولي بأنها قادرة على فرض سيادة الدولة وحصر السلاح بيد الجيش.
لكن الخطوة أثارت قلقًا إضافيًا لدى جهات داخلية وخارجية، خشية أن يؤدي استعراض القوة هذا إلى تقويض فرص الحلول السياسية أو العروض المطروحة مؤخرًا لتطبيع الوضع على الحدود مع إسرائيل.
استعراض للتغطية أم تحدٍّ مباشر؟
رغم الطابع الرمزي الذي تحمله ذكرى عاشوراء لدى أنصار الحزب، إلا أن مراقبين يرون أن الاستعراض جاء أيضًا كردّ مباشر على ما تسرّب من معلومات خلال الأسابيع الماضية عن مراجعة داخلية يجريها الحزب بشأن مستقبله العسكري، واحتمال قبوله بالتخلّي عن بعض الأسلحة الثقيلة – كالمسيّرات والصواريخ – ضمن تسوية إقليمية، مقابل مكاسب سياسية وجغرافية.
وبحسب التسريبات، فقد اقترح المبعوث الأميركي إلى سوريا، توماس باراك، خلال زيارة له إلى بيروت منتصف يونيو، خطة تقضي بانسحاب إسرائيل من خمس نقاط حدودية جنوب لبنان، مقابل تخلي الحزب الكامل عن سلاحه مع نهاية العام الجاري، وإطلاق سراح الأموال المخصصة لإعادة إعمار المناطق التي دمرتها الحرب الأخيرة.
المقترح الأميركي أعاد إشعال النقاش في الأوساط اللبنانية حول مستقبل “حزب الله” كقوة عسكرية مستقلة عن الدولة، خصوصًا مع دخول الحكومة الجديدة التي يُفترض أن تعكس توجهًا إصلاحيًا وتنفتح على المجتمع الدولي. لكن الاستعراض العسكري الأخير بدا كصفعة لهذا الخطاب، ورسالة مفادها أن السلاح باقٍ، وأن الحزب هو من يُقرر متى وكيف يفاوض.
انقسام داخلي وغضب حكومي
رئيس الوزراء نواف سلام لم يتأخر في التعبير عن رفضه، معتبرًا في منشور عبر منصة “إكس” أن ما جرى “لا يمكن قبوله بأي شكل من الأشكال وتحت أي مبرر”، معلنًا أنه وجّه وزيري الداخلية والعدل لاتخاذ كافة الإجراءات القانونية بحق المشاركين في الاستعراض وإحالتهم إلى التحقيق.
تصريحات سلام تعكس محاولة الحكومة الناشئة رسم حدود جديدة للعلاقة بين الدولة والحزب، في وقت يعاني فيه لبنان من أزمة اقتصادية خانقة، ويواجه ضغوطًا متزايدة من المانحين الدوليين والمؤسسات المالية، التي تربط أي دعم باستعادة الدولة لسيادتها الأمنية والعسكرية.
“فائض القوة” يتحول إلى عبء
مصادر مطلعة على مداولات داخل “حزب الله” كشفت – وفق ما نقلته وكالات دولية – أن قيادة الحزب تجري مراجعة استراتيجية عميقة، خلصت إلى أن ترسانته الكبيرة، التي بُنيت على مدى عقدين من الزمن، باتت عبئًا في السياق السياسي الحالي، وأن هناك إدراكًا داخليًا بأن فائض القوة لم يعد ورقة ردع، بل أصبح عنصر ضغط داخلي وخارجي يقيّد حركته.
وفي تعبير لافت، وصف أحد المسؤولين المطلعين على تلك المداولات الوضع بالقول: “حزب الله ليس انتحاريًا”، في إشارة إلى استعداد ضمني لإعادة النظر في بعض خياراته، لكن دون التخلي الكامل عن سلاحه أو موقعه العسكري.
معركة السلاح لم تُحسم
في ظل الانقسام الداخلي بين دعاة “الدولة أولاً” وبين من يرون في الحزب حصنًا في وجه إسرائيل، لا تبدو معركة نزع السلاح قريبة من نهايتها. فما بين ضغوط دولية متزايدة، ومطالب شعبية باستعادة السيادة، واستعراضات عسكرية تكرّس واقع السلاح الموازي، يواصل لبنان الدوران في حلقة مفرغة من الغموض السياسي.
ويبقى السؤال المطروح: هل يشكّل خطاب الحكومة الجديدة نقطة انطلاق فعلية نحو إعادة ضبط العلاقة بين الدولة و”حزب الله”؟ أم أن استعراض زقاق البلاط، وما يحمله من رمزية، سيكون بداية تصعيد مفتوح قد يفضي إلى مواجهات سياسية – وربما أمنية – خلال الشهور المقبلة؟