يأتي بيان قمة قادة مجموعة “بريكس” في مدينة ريو دي جانيرو كخطوة دبلوماسية مهمة تسجل في صالح القضية الفلسطينية، في توقيت شديد الحساسية يشهد تصعيداً غير مسبوق في العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، واستمراراً لحرب الإبادة والتهجير الجماعي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، لا سيما في ظل انكشاف المواقف الغربية التقليدية وتراجعها عن ممارسة ضغوط حقيقية على إسرائيل.
الدلالة الرمزية والسياسية لبيان “بريكس”
يمثل بيان القمة – بما تضمنه من مطالبة بوقف دائم وغير مشروط لإطلاق النار، وانسحاب كامل للاحتلال الإسرائيلي من غزة وجميع الأراضي الفلسطينية المحتلة – تصعيداً نوعياً في المواقف الدولية المؤيدة للحقوق الفلسطينية، ويتمايز بوضوح عن الخطاب الموارب الذي تتبناه الدول الغربية الكبرى، التي كثيراً ما تربط وقف إطلاق النار بشروط أمنية إسرائيلية، دون أدنى اعتبار لحجم الكارثة الإنسانية المتفاقمة في غزة.
من الناحية الرمزية، فإن صدور هذا البيان عن مجموعة “بريكس”، التي تضم قوى صاعدة مثل الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، يعكس تآكلاً تدريجياً لاحتكار الغرب للقرار الدولي، ويؤشر على تحوّل موازين القوة في النظام العالمي الجديد. فقد تحوّلت هذه المجموعة من تكتل اقتصادي ناشئ إلى منصة سياسية فاعلة تقدم رؤية مختلفة لإدارة الأزمات الدولية، تضع العدالة والمساءلة في موضع مركزي، وتتبنى خطاباً مناهضاً للهيمنة والاحتلال.
دور الدبلوماسية الفلسطينية
الترحيب الفلسطيني الرسمي، عبر وزارة الخارجية والمغتربين، لا يأتي فقط بوصفه إشادة ببيان “بريكس”، بل يعكس أيضاً جهوداً دبلوماسية حثيثة تبذلها السلطة الفلسطينية لإعادة تفعيل الحاضنة الدولية للقضية الفلسطينية، لا سيما في ظل انغلاق المسار التفاوضي التقليدي، وتراجع فعالية المؤسسات الأممية في الضغط على إسرائيل. وتعد الدبلوماسية الفلسطينية – رغم ما تواجهه من تحديات – من أنشط الفاعلين على الساحة الدولية في المرحلة الراهنة، حيث تنوعت تحركاتها بين مخاطبة المحافل الدولية، وتوثيق الانتهاكات، والتنسيق مع دول الجنوب العالمي، كما ظهر جلياً في التنسيق مع الدول العربية والإسلامية والإفريقية واللاتينية لطرح القضية الفلسطينية في المنتديات الدولية، من مجلس الأمن إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومن منظمة التعاون الإسلامي إلى قمة “بريكس”.
وفي ظل صمت كثير من العواصم الغربية أو انحيازها الصريح لرواية الاحتلال، تحاول الدبلوماسية الفلسطينية أن تملأ هذا الفراغ الأخلاقي والسياسي بإعادة تعريف الصراع ضمن أبعاده القانونية والحقوقية، باعتباره صراع شعب محتل في مواجهة قوة استعمارية استعانت بكل أدوات الحصار والتجويع والقتل والتهجير، وهو ما تجسده دعوة وزارة الخارجية إلى فتح مسار سياسي تفاوضي يستند إلى المرجعيات الدولية ومبادرة السلام العربية، بوصفه الطريق الوحيد لإنهاء الصراع وليس تأبيده.
المعركة على الرأي العام العالمي
لا يمكن قراءة بيان “بريكس” خارج سياق التحول التدريجي في الرأي العام العالمي تجاه ما يجري في غزة. فقد أصبح القصف الإسرائيلي اليومي للمدنيين وتهجير مئات الآلاف مادة يومية في وسائل الإعلام العالمية، بما في ذلك تلك المحسوبة تقليدياً على “التيار الليبرالي” الغربي. هذا التحول في الوعي الدولي فتح هامشاً أكبر للدبلوماسية الفلسطينية لتعزيز حضورها، والاستفادة من التأييد الشعبي العالمي المتصاعد، ولا سيما في الجامعات والنقابات ومنظمات المجتمع المدني.
نحو أفق سياسي مختلف
في ظل كل ذلك، يشكّل بيان “بريكس” وما تبعه من ترحيب فلسطيني فرصة لإعادة تفعيل المسار السياسي الدولي وفق أسس عادلة، وليس مجرد تهدئة مؤقتة أو حلول إنسانية تخفي جذور الأزمة. فالبيان يقر صراحة بأن إنهاء الاحتلال والاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني هما شرطا الأمن والاستقرار، ليس فقط في الشرق الأوسط، بل في العالم بأسره، وهي رؤية تستحق البناء عليها وتحويلها إلى تحالف دولي فاعل يدعم الحق الفلسطيني ويتصدى لمنطق الإفلات من العقاب.
بالتالي، فإن الدبلوماسية الفلسطينية مدعوة الآن لمراكمة هذا الزخم وتحويل المواقف المتقدمة، مثل تلك الصادرة عن “بريكس”، إلى أدوات ضغط عملية، سواء عبر الأمم المتحدة أو المحكمة الجنائية الدولية أو شبكات العلاقات الثنائية والمتعددة الأطراف، وصولاً إلى تفعيل مسار سلام حقيقي يعيد الاعتبار للعدالة، ويضع حداً لواحدة من أطول وأبشع صور الاستعمار في العصر الحديث.