في الوقت الذي يستعد فيه الوسطاء الدوليون لإطلاق جولة جديدة من المفاوضات غير المباشرة بين حركة “حماس” وإسرائيل في العاصمة القطرية الدوحة، كشف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن وجه آخر من خطته السياسية والعسكرية تجاه قطاع غزة، حين وجّه تعليماته لقيادة الجيش بإعداد خطة لاحتلال القطاع بالكامل، وهو ما يُعتبر – وفق أغلب المراقبين – ليس مجرد تكتيك تفاوضي، بل إشارة استراتيجية عن نوايا بعيدة المدى.
تراشق كلامي بين نتنياهو وزامير
تسريب ما دار في الجلسة الأمنية الأخيرة، بكل ما انطوى عليه من صراخ وتراشق كلامي بين نتنياهو ورئيس الأركان إيال زامير، لم يكن صدفة. لقد أرادت دوائر نتنياهو إيصال رسالة متعددة الاتجاهات: أولها إلى حركة “حماس”، مفادها أن خيار اجتياح القطاع وإعادة احتلاله على الطاولة، بما يحمله ذلك من تهديد بترحيل جماعي، ومزيد من التصعيد الدموي، وهو نوع من الابتزاز السياسي لدفع الحركة نحو التراجع عن مطالبها، وعلى رأسها التمسك بوقف دائم لإطلاق النار.
الرسالة الثانية موجهة إلى الشركاء داخل الحكومة الإسرائيلية، وبخاصة وزيري “الصهيونية الدينية” إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، اللذين هددا في أكثر من مناسبة بإسقاط الحكومة إذا ما قبلت باتفاق لا يحقق “الحسم الكامل” مع “حماس”. وهنا يحاول نتنياهو اللعب على حافة الهاوية؛ يلوّح بخيار الاحتلال لإرضاء أقصى اليمين، دون أن يذهب إليه فعلياً، محاولاً الحفاظ على تماسك حكومته المنقسمة على ذاتها.
أما الرسالة الثالثة فكانت موجهة إلى الولايات المتحدة، وتحديداً للرئيس السابق دونالد ترمب، حليف نتنياهو المفترض في معسكر اليمين القومي الدولي. اختار نتنياهو توقيت إصدار تعليماته قبيل زيارته المرتقبة إلى واشنطن، ليُظهر أن القوة هي طريقه الوحيد للسلام، في استعارة تكتيكية من خطابات ترمب الشعبوية. الهدف هنا مزدوج: تأمين دعم سياسي أميركي في مرحلة دقيقة من الحرب، وتفادي أي ضغوط جدية قد تمارسها الإدارة الأميركية خلال زيارة نتنياهو، من أجل وقف دائم لإطلاق النار أو خارطة طريق لما بعد الحرب.
مأزق المؤسسة السياسية في إسرائيل
لكن ما تم تسريبه من داخل الجلسة الأمنية يكشف أن الفجوة داخل مؤسسة الحكم الإسرائيلية أعمق بكثير مما يبدو على السطح. رئيس الأركان زامير، رغم التزامه الظاهري بأوامر المستوى السياسي، عبّر بوضوح عن معارضته لفرض سيطرة إسرائيلية مباشرة على قطاع غزة، وحذر من تداعيات غير محسوبة على الصعيدين الأمني والاجتماعي، سواء داخل القطاع أو في العمق الإسرائيلي. رفضه جاء مدفوعاً ليس فقط بالاعتبارات الإنسانية أو القانونية، بل كذلك بحسابات واقعية عن حجم الكلفة البشرية والاقتصادية والعسكرية لخيار الاحتلال. فقد أشار بوضوح إلى أن إدارة مليوني إنسان جائع ومهجر وغاضب ستكون وصفة لانفجار داخلي يصعب السيطرة عليه، وأن خيار الحكم العسكري هو مغامرة فاشلة مسبقاً، مهما كان حجم القوة المستخدمة.
هذا التباين في الرؤى بين نتنياهو والجيش يعكس مأزق المؤسسة السياسية في إسرائيل: فهي لا تمتلك استراتيجية خروج من الحرب، ولا تصوراً لما بعد العمليات العسكرية، باستثناء شعارات استئصال “حماس” وتكريس الردع. لكن هذه الشعارات باتت، حتى داخل إسرائيل، محل تساؤل وجدل، بعد تسعة أشهر من الحرب الطاحنة التي فشلت في تحقيق أهدافها المعلنة، ولم تحل دون استمرار المقاومة، بل على العكس، عمّقت الجذور الاجتماعية والسياسية للحركة في المجتمع الفلسطيني الغزي، رغم ما تكبدته من خسائر.
في هذا السياق، يبدو أن نتنياهو لا يسعى إلى إنهاء الحرب، بل إلى إعادة تعريف النصر؛ عبر صناعة “صورة نصر” تُقدَّم لجمهور الداخل، تغطي على الإخفاقات، وتحافظ على مستقبله السياسي المهدد. لكنه يصطدم بمؤسسة عسكرية باتت أكثر ميلاً للواقعية، وأقل استعداداً للدخول في مغامرات مفتوحة، وخصوصاً بعد أن اكتشفت محدودية القوة المجردة في كسر إرادة شعب يواجه حرب إبادة.
التهجير القسري
واللافت أن مسألة الاحتلال ليست مجرد نزوة آنية في عقل نتنياهو، بل تتصل بإعادة إحياء أطروحة “التهجير القسري” إلى جنوب غزة أو إلى الخارج، وهي فكرة لطالما راودت دوائر أقصى اليمين الإسرائيلي. غير أن الجيش ذاته يعارض هذا الخيار، ويرى فيه وصفة لانفجار إقليمي ودولي، خصوصاً في ظل الموقف المصري الحاسم برفض أي حلول تتضمن تهجير الفلسطينيين إلى سيناء أو أي منطقة أخرى.
وفي النهاية، فإن خطة نتنياهو المزعومة لاحتلال غزة، سواء أكانت ورقة ضغط تفاوضي، أم رغبة حقيقية في تنفيذ مشروعه اليميني، فإنها تؤكد من جديد غياب أي رؤية إسرائيلية جادة للتسوية السياسية، وانعدام الاستعداد للقبول بحل يضمن الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية. وبينما تنفتح نافذة دبلوماسية في الدوحة، يسعى نتنياهو إلى إغلاقها بقوة السلاح، متجاهلاً أن الحروب لا تنهي الصراعات، بل تؤجلها، وأن الاستقرار لا يُبنى على الأنقاض، بل على العدالة والشراكة والاحترام المتبادل.