تُعَدّ الخطة الإسرائيلية المقترحة بتجميع سكان قطاع غزة في “مدينة” واحدة في رفح، والتي أيّدها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وطرحها وزير الحرب إسرائيل كاتس، تطورًا بالغ الخطورة في مسار الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، لما تحمله من دلالات صريحة على السعي إلى فرض تهجير قسري جماعي تحت غطاء “إدارة إنسانية” ظاهرها تنظيم الإغاثة وباطنها تفريغ الأرض وتثبيت واقع جديد بالقوة.
هندسة الخريطة السكانية لغزة
الاقتراح القاضي بتجميع سكان غزة في منطقة رفح، وهي أصلاً من أكثر المناطق اكتظاظًا بالسكان والنزوح منذ بداية الحرب، لا يمكن فهمه إلا في سياق سياسة طويلة الأمد تسعى فيها إسرائيل إلى إعادة هندسة الخريطة السكانية للقطاع. في جوهره، يعيد هذا الطرح إحياء فكرة “الترانسفير” التي لطالما كانت ضمن النقاشات الإسرائيلية المتطرفة، وإن باتت اليوم تُقدَّم بصيغة أكثر “بيروقراطية” وربما أقلّ صخباً، تحت عناوين مثل “المدينة” أو “الإدارة المؤقتة”.
المقلق في التصريحات المسربة أن نتنياهو لا يستبعد إدارة إسرائيلية مباشرة للمخيم، حتى وإن ظهرت واجهة مدنية أو محلية لإدارة شؤونه اليومية. هذا يعني عملياً إقامة منطقة خاضعة للسيطرة العسكرية الإسرائيلية الكاملة، مع تفويض جزئي لجهات محلية أو منظمات إنسانية تقوم بدور “الوسيط التنفيذي”، في محاولة للالتفاف على المساءلة الدولية وتخفيف الضغط الأخلاقي. ولكن في الحقيقة، فإن هذه الصيغة لا تختلف كثيراً عن إعادة صياغة الاحتلال ذاته بشكل غير معلن.
رفض إسرائيل لأي التزامات بإعادة الإعمار
وإذا أُقيم هذا المخيم الكبير في رفح فعلياً، فإن النتيجة ستكون تحويل أكثر من مليوني فلسطيني إلى لاجئين داخل القطاع، مع عزل شمال غزة ووسطها من دون أي أفق للعودة، خاصة في ظل استمرار رفض إسرائيل لأي التزامات بإعادة الإعمار أو تمكين مؤسسات فلسطينية شرعية من العمل هناك. والأسوأ من ذلك، أن الخطة تتضمن وقف إنشاء نقاط توزيع جديدة للمساعدات في الشمال، مما يعني أن مئات آلاف السكان هناك سيُجبرون على مغادرة مناطقهم نحو الجنوب للبقاء على قيد الحياة، ما يحوّل الإغاثة إلى أداة ضغط ديموغرافي وأداة تهجير غير مباشرة.
توقيت هذا الطرح ليس بريئاً أيضاً. فمع تراجع الدعم الدولي لإسرائيل بشكل تدريجي في ظل تصاعد الكارثة الإنسانية، تحاول الحكومة الإسرائيلية إظهار “رؤية” ما لليوم التالي، لكنها رؤية أحادية الجانب، لا تمثل حلاً سياسياً أو إنسانياً، بل تعيد إنتاج الأزمة في شكل أكثر إحكاماً، ينزع من الفلسطينيين حقهم في البقاء على أرضهم، ويحوّلهم إلى مجتمع معزول تحت إدارة أمنية، بلا سيادة، وبلا أفق سياسي.
ومن الناحية القانونية، فإن هذا المخطط يمثل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، الذي يحرّم بشكل قاطع التهجير القسري الجماعي في زمن الحرب. حتى وإن بدا الطرح تحت مسمى “الإدارة الإنسانية”، فإن غياب حرية الاختيار للفلسطينيين، وحرمانهم من العودة إلى منازلهم، يجعل من هذا النموذج إعادة إنتاج لنكبة جديدة، قد لا تحمل عنواناً مباشراً، لكنها تحقق هدفاً مشابهاً: تفريغ الأرض من أهلها وتثبيت وقائع جديدة بقوة الاحتلال والدمار.
جولة جديدة من النكبات
في السياق السياسي الأشمل، يعبّر هذا التوجه الإسرائيلي عن فشل ذريع في تقديم أي مشروع قابل للحياة أو الحل، إذ تحوّلت إسرائيل من كيان يروّج لمكافحة “تهديد أمني” إلى دولة تدير مخيماً ضخماً من المهجّرين، تحت راية الحرب المفتوحة والقتل المنهجي والتجويع، وكل ذلك في غياب أي عملية سياسية ذات صدقية.
الخطة تكشف بوضوح أن إسرائيل لم تكن تبحث يوماً عن القضاء على “حماس” فقط، بل كانت تسعى إلى إعادة صياغة الواقع الفلسطيني برمّته، من خلال نزع مقومات البقاء، وتفكيك وحدة الجغرافيا، وتحويل غزة إلى كيان هلامي بلا هوية سياسية ولا قدرة على النهوض. إنها وصفة للانهيار الإنساني والاجتماعي، وليست حلاً للأمن أو الاستقرار، لا للفلسطينيين ولا حتى لإسرائيل.
باختصار، فإن مشروع “مدينة رفح” المقترحة ليس حلاً إنسانياً، بل نموذجاً استيطانياً مقنعاً للتهجير، يُسهم في تكريس واقع دائم من الإذلال والنفي الجماعي، ويؤسس لجولة جديدة من النكبات في تاريخ الشعب الفلسطيني، الذي لا يزال يدفع ثمن صموده من أرضه وحياته ومستقبله.