في ساعة مبكرة من صباح الخميس 10 يوليو/تموز 2025، اختار الرئيس التونسي قيس سعيّد أن يعاين بنفسه ما وصفه لاحقاً بـ”الخراب البيئي” الذي يهدد الشريط الساحلي لولاية المنستير، حيث زار معتمدية قصيبة المديوني ومحطة التطهير بلمطة، في مشهد يعكس حجم التوتر الرسمي إزاء الأوضاع البيئية المتدهورة في مناطق تعتبر من أبرز الواجهات السياحية والبيئية لتونس.
الزيارة، التي بدت خارج البروتوكول التقليدي، حملت في طيّاتها أكثر من رسالة. فالرئيس، الذي لم يخف غضبه من مظاهر التلوّث والروائح الكريهة في محيط المحطة، وجّه انتقادات غير مسبوقة إلى وكالة حماية وتهيئة الشريط الساحلي، واصفاً إياها بأنها “وكالة اغتيال الشريط الساحلي” في إشارة حادة إلى فشلها في حماية الثروات الطبيعية من العبث وسوء التصرّف.
لكن الأهم من ذلك، أن سعيّد لم يكتف بوصف الواقع، بل طرح تساؤلات محمّلة باتهامات ضمنية حول الجهات التي تسمح بتصريف المياه الصناعية المستعملة مباشرة في البحر، دون معالجة أو رقابة، محذّراً من أن هذه الممارسات تشكّل “جرائم نكراء في حق الشعب التونسي”، تستوجب المحاسبة الفورية.
شواطئ تتلاشى… وذاكرة بيئية في خطر
عبر سنوات طويلة، شكّلت سواحل المنستير وجاراتها من مدن الساحل التونسي واجهة سياحية رائدة، امتازت بجودة مياهها ونظافة رمالها وتنوعها البيولوجي. لكن هذه الصورة، كما يبدو، بدأت تتآكل. فخلف الصور الترويجية والواجهات الفندقية، تتوالى المؤشرات على تدهور بيئي مستمر، تؤكده أصوات السكان المحليين الذين التقى بهم سعيّد خلال زيارته، واستمع إلى شكاواهم من تفشي الأمراض وتدهور الأوضاع الصحية.
السكان لم يُخفوا غضبهم من غياب أي تدخل فعلي في السنوات الماضية، مؤكدين أن الشواطئ، التي كانت في وقت مضى مفخرة البلاد، تحوّلت اليوم إلى نقاط سوداء بفعل التلوّث الصناعي والمياه الراكدة والروائح الكريهة. كما أشار بعضهم إلى ارتفاع غير مسبوق في الأمراض الجلدية والتنفسية، لا سيما في صفوف الأطفال وكبار السن، بسبب الاحتكاك الدائم مع محيط ملوّث لم يعد صالحاً لا للسباحة ولا للحياة.
هيكل إداري مُعطَّل واتهامات بالفساد
من خلال تصريحاته، لمّح رئيس الجمهورية إلى أن الأزمة البيئية الحالية ليست نتاج عوامل طبيعية أو عرضية، بل نتيجة مباشرة لتراكم الإهمال، وغياب المساءلة، وسوء إدارة الموارد العمومية. وبتصريحه بأن “الاعتمادات موجودة”، ألقى الكرة في ملعب الوكالات الحكومية التي قال إنها أصبحت عبئاً على الدولة أكثر من كونها ذراعاً تنفيذياً لحمايتها.
الرئيس لوّح أيضاً بإمكانية حل وكالة حماية الشريط الساحلي، داعياً إلى نقل صلاحياتها إلى الجهات المحلية، في إطار تعزيز اللامركزية ومساءلة المسؤولين الجهويين مباشرة من قبل المواطنين.
لكن هذا الطرح يفتح نقاشاً أوسع حول بنية المؤسسات المعنية بالبيئة في تونس، وحول تداخل الصلاحيات بين الهياكل الحكومية المركزية والجهوية، وسط اتهامات متكررة بوجود “مراكز نفوذ” داخل الإدارة تُعطّل الإصلاحات وتمنع التحقيق في ملفات الفساد المرتبطة بإهدار المال العام أو استغلال النفوذ.
قضية بيئية… أم أزمة وطنية؟
ما يجري في المنستير، كما أشار الرئيس بنفسه، ليس حالة استثنائية. فتدهور الشريط الساحلي يطال أغلب ولايات تونس المطلة على البحر، من بنزرت شمالاً إلى مدنين جنوباً، مروراً بالحمامات وسوسة وصفاقس. والبيئة، التي لطالما ظُنّ أنها أولوية ثانوية، باتت اليوم على تماس مباشر مع الصحة العامة، والسياحة، والأمن الغذائي، وحتى الثقة في مؤسسات الدولة.
ورغم المبادرات المتقطعة والتقارير الدورية، لا تزال المعالجة البيئية في تونس محكومة بإطار إداري تقليدي، يفتقر إلى الشفافية والصرامة القانونية، في غياب إرادة سياسية موحدة لوضع البيئة في قلب السياسات الوطنية.
في ظل هذه المعطيات، يبدو أن ما عاينه قيس سعيّد فجراً في قصيبة المديوني ليس سوى واجهة لمشكلة أعمق، تتعلق بكيفية إدارة البلاد لثرواتها الطبيعية، وموقع البيئة ضمن أولويات الدولة.