يشير تعثّر مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة، رغم دخولها أسبوعها الثاني في الدوحة، إلى عمق الهوة السياسية والعسكرية بين أطراف النزاع، ويعكس في الوقت نفسه مأزقاً استراتيجياً مزدوجاً: بالنسبة لإسرائيل، التي تسعى لتحقيق أهدافها القصوى دون تكلفة سياسية مفرطة، وبالنسبة لحركة حماس، التي ترفض ما تعتبره تكريساً للاحتلال وتبديداً لنتائج صمودها العسكري.
السبب الرئيسي وراء هذا التعثر هو إصرار إسرائيل على تقديم خريطة انسحاب لا تعكس انسحاباً حقيقياً، بل “إعادة انتشار” لقواتها، تبقي بموجبها على نحو 40% من مساحة قطاع غزة تحت سيطرة عسكرية مباشرة. هذا الطرح يتجاوز مجرد بند تقني في التفاوض، بل يعكس نوايا إسرائيل الواضحة في فرض واقع أمني جديد داخل غزة، يجعل من أي وقف لإطلاق النار في المرحلة الحالية مجرد هدنة مؤقتة تُبقي يد الجيش الإسرائيلي مطلقة في أجزاء واسعة من القطاع. بهذا المعنى، ترفض إسرائيل التخلي عن أوراق القوة الميدانية التي تتيح لها المراقبة والسيطرة، سواء لاعتبارات أمنية أو للضغط المستقبلي السياسي على حركة حماس.
تفكيك القدرات العسكرية لحماس
في المقابل، تعتبر حماس أن هذا الطرح يعيد إنتاج الاحتلال بصيغة مختلفة، ويحوّل غزة إلى كانتونات محاصرة ومعزولة تخضع للمراقبة والملاحقة العسكرية حتى في زمن الهدنة، مما يتناقض مع جوهر مطالبها المتمثلة في الانسحاب الكامل ورفع الحصار. ورفض الحركة لهذا المقترح لا ينبع فقط من اعتبارات عسكرية أو سيادية، بل أيضاً من قناعة بأن قبول مثل هذه الصيغة يعني الاعتراف بهزيمة سياسية، وتفريغ المقاومة من معناها الرمزي والميداني، خاصة بعد أشهر طويلة من المواجهة التي دفعت ثمناً بشرياً ومادياً باهظاً.
التصريحات العلنية من الجانب الإسرائيلي، خصوصاً على لسان نتنياهو، تشير بوضوح إلى نوايا بعيدة المدى تتجاوز الهدنة، وتشترط تفكيك القدرات العسكرية لحماس واستبعادها من الحكم كمدخل لأي اتفاق دائم. هذه الشروط، التي لا يمكن أن تُنفّذ إلا بالقوة أو من خلال اتفاق استسلام، تقوّض بطبيعتها أي فرصة لنجاح مفاوضات آنية هدفها إنساني بالدرجة الأولى، يتعلّق بالإفراج عن الرهائن وتخفيف الكارثة في القطاع. التلويح الإسرائيلي الدائم بخيار استئناف الحرب في حال عدم تحقق هذه الشروط، يُفقد العملية التفاوضية مرونتها، ويحولها إلى أداة ضغط أكثر منها مساراً حقيقياً لتسوية مؤقتة.
رغبة إدارة ترامب
من ناحية أخرى، يعكس التفاؤل الأميركي – المعلن – بخصوص قرب الاتفاق، تناقضاً مع الواقع الميداني والتفاوضي. هذا التفاؤل يمكن قراءته كمحاولة ضغط ناعم على الطرفين، لا سيما على حماس، لإظهارها بموقع المعرقل في حال فشل الجولة. كما يمكن تفسيره في إطار رغبة إدارة ترامب، ومعها أطراف أوروبية، في تسجيل اختراق سياسي قبيل الانتخابات الأميركية المقبلة، عبر طي صفحة إحدى أكثر الأزمات تعقيداً واستنزافاً.
الحديث الإسرائيلي المتكرر عن عدد الرهائن الأحياء والأموات، والمقايضات الممكنة بشأنهم، يُظهر أيضاً أن إسرائيل تنظر إلى التهدئة بوصفها “صفقة جزئية”، وليست مدخلاً لتسوية شاملة. هذا يعني أن المفاوضات محكومة بسقف منخفض من الطموحات، هدفه الوصول إلى اتفاق مرحلي يتيح لإسرائيل استعادة أكبر عدد ممكن من الرهائن، دون أن تُضطر لدفع ثمن سياسي أو ميداني كبير يتمثل في الانسحاب أو تغيير استراتيجية الحرب.
نفي قادة حماس
أما الشرط الذي طرحه وزير الخارجية الإسرائيلي بخصوص “نفي قادة حماس”، فهو يُشكّل مؤشراً إضافياً على أن إسرائيل لا تبحث فقط عن تهدئة، بل عن إعادة صياغة الواقع السياسي في غزة بالكامل، وهو أمر تدرك حماس أنه يمثل خطراً وجودياً، ولذلك ترفض أي صيغة تحمل بين طيّاتها بوادر تطهير سياسي أو ميداني.
تعثر المفاوضات الحالية لا يعكس فقط تبايناً في المواقف، بل يُظهر حدود الأدوات التفاوضية التقليدية في ظل غياب الثقة الكاملة، واستمرار الحسابات العسكرية من الطرفين. كلا الجانبين يُفاوض تحت وقع السلاح، ويعتبر أن أي تنازل يُقدَّم الآن هو تنازل في معركة لم تُحسم بعد. وبين ضغوطات الرأي العام، واستحقاقات السياسة الدولية، ورهانات كل طرف على الوقت، تبقى احتمالات الاتفاق ممكنة تقنياً، لكنها مرهونة بتغيّر في مواقف أحد الطرفين أو بتدخل خارجي حاسم يعيد ترتيب قواعد اللعبة على الأرض.