في أحد فصول المأساة المستمرة في قطاع غزة، تختبئ حكاية أم منصور رضوان خلف جدران مدرسة متصدعة بمدينة خان يونس، تحولت إلى مأوى مؤقت للنازحين. تبلغ أم منصور من العمر ستين عاماً، لكنها تبدو وكأنها عاشت مئة عام من التعب والخذلان. وجهها الموشوم بتجاعيد الحزن يحمل ملامح الصبر أكثر مما يحمل علامات الزمن، وعيونها المرهقة تنظر إلى المجهول، بينما تحتضن بقلبها الممزق ابنها منصور، ابن الخامسة والثلاثين، الذي فقد ساقه كما فقد معها قدرته على الحلم.
آهات النازحين
كلاهما مبتور الساق. كلاهما لا يملكان سوى بعض البطاطين المتناثرة فوق الأرض الباردة، وخيمة مهترئة تقيهما بالكاد من حر النهار أو لسعة البرد في الليل. لا يوجد سرير، لا يوجد دواء، لا توجد خصوصية. في هذا الركن المعزول من مدرسة باتت تضج بآهات النازحين، تحاول أم منصور أن تبقى واقفة، حتى بساق واحدة، لتكون سنداً لابنها الذي لا يقوى على الحركة، والذي بدوره يحاول أن يخفي ألمه عنها خشية أن يزيد من وجعها.
تتذكر أم منصور منزلها في حيّها الذي دمّرته الطائرات الإسرائيلية، وكيف استيقظت على صوت الانفجار وهي تحت الأنقاض، لتكتشف لاحقاً أنها فقدت ساقها اليمنى، ثم علمت أن ابنها منصور أصيب إصابة مماثلة بينما كان يحاول سحبها إلى الخارج. صرخة الألم كانت مشتركة، لكن الجرح ظل مفتوحاً، لا بمرهم يلتئم، ولا بوطن يحتضن.
إخلاء خان يونس
اليوم، يقفان أمام أمرٍ جديد من جيش الاحتلال: إخلاء خان يونس. سؤال الإخلاء لا معنى له حين لا تملك قدمين للمغادرة، ولا تملك وجهاً تعرفه في المكان الذي يُفترض أن تلجأ إليه. إلى أين يذهبان؟ ومن سيحمل الجسدين المبتورين وسط هذا الطوفان من النزوح الجماعي؟ كل ما في وسعهما أن يفعلاه الآن هو أن ينتظرا، كما ينتظر باقي سكان الخيام، مصيراً لا أحد يملك له اسماً.
في عتمة هذه الحكاية، لا تنطفئ شعلة الأمومة. لا تزال أم منصور تهمس لابنها في الليل: “سنعود يا ابني… حتى ولو زحفنا”، وهو بدوره يبتسم، لا لأنه يصدق، بل لأنه يريد أن يصدق، فقط ليمنحها لحظة عزاء.
هذه قصة أم منصور ومنصور — ليست فقط قصة أم وابنها، بل حكاية وطنٍ جريح، تنهشه الحرب، وتقاومه أمهات يقفن على قدم واحدة، ولا يسلمن.