تعكس تصريحات الرئيس الفلسطيني محمود عباس الأخيرة، خلال لقائه برئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير، ملامح استراتيجية سياسية واضحة يحاول من خلالها إعادة توجيه مسار التعاطي مع قطاع غزة ما بعد الحرب، في إطار رؤية قائمة على “الشرعية الدولية” و”حل الدولتين”، وفي الوقت ذاته تحجيم دور حركة حماس وضمان عدم استمرار سيطرتها على القطاع. هذه التصريحات لا تأتي بمعزل عن السياق الإقليمي والدولي الراهن، وإنما تحمل دلالات متعددة على المستويين الداخلي والخارجي، في ظل معركة مفتوحة في غزة ومعادلات سياسية متغيرة.
تمكين الدولة الفلسطينية
تصريح عباس بأن “الحل الوحيد القابل للتطبيق” هو انسحاب إسرائيل الكامل وتمكين الدولة الفلسطينية من تولي مسؤولياتها في غزة، يعكس رغبة في فرض السلطة الفلسطينية كجهة وحيدة معترف بها دوليًا لقيادة ما يُعرف بـ”اليوم التالي” للحرب. إلا أن اشتراطه “الدعم العربي والدولي الفاعل” يُظهر إدراكًا بأن السلطة وحدها غير قادرة – سياسيًا أو إداريًا أو أمنيًا – على ملء الفراغ الذي قد تتركه إسرائيل في غزة، دون شبكة إسناد إقليمي واضحة ومشروطة بموافقة دولية متكاملة.
في المقابل، تأكيده الصريح بأن “حماس لن تحكم غزة” يمثل رسالة مزدوجة: الأولى موجّهة للداخل الفلسطيني وتعكس استمرار حالة الانقسام وغياب أي أفق للمصالحة الوطنية في ظل التوتر بين فتح وحماس، والثانية موجهة للخارج – وتحديدًا للشركاء الدوليين – كمحاولة لكسب الثقة في أن السلطة الفلسطينية مستعدة للعب دور “البديل المقبول” لحركة حماس إذا ما تم التوافق على ترتيب الوضع في غزة. هذه الرسالة قد تجد صدى لدى بعض الأطراف الغربية، لكنها في الوقت نفسه تفتح مزيدًا من التساؤلات حول مستقبل وحدة القرار الفلسطيني، واستمرار الانقسام كعقبة رئيسية أمام أي مشروع وطني شامل.
نزع سلاح حماس
موقف عباس من المقاومة المسلحة، المتمثل في دعوته حماس لتسليم سلاحها والانخراط في العمل السياسي وفق برنامج منظمة التحرير، يُعيد إلى الواجهة الانقسام الجوهري في الرؤية بين السلطة والمقاومة. فالمطالبة بنزع سلاح حماس – في ظل استمرار الاحتلال والعدوان – يُقرأ دوليًا كعلامة على “الاعتدال”، لكنه يواجه صداما داخليًا، خاصة من فصائل المقاومة.
في السياق السياسي الأشمل، أعاد عباس التأكيد على المرجعيات الكلاسيكية للتسوية: وقف الاستيطان، ورفض الضم، وإنهاء الاعتداءات على المقدسات، والدعوة لعقد مؤتمر دولي في نيويورك لتنفيذ حل الدولتين. هذه الطروحات تُعيد التذكير بثوابت الموقف الرسمي الفلسطيني، في ظل انحياز دولي – لا سيما أميركي – لإسرائيل، وانهيار فعلي لمسار المفاوضات التقليدي، وتآكل فعالية الوساطات الأممية.
استعادة السلطة دورها في غزة
أما على مستوى الجهود الإنسانية والسياسية لإنقاذ غزة، فقد طالب عباس بوقف فوري لإطلاق النار، وضمان دخول المساعدات، والإفراج عن الأسرى والرهائن، في تمايز واضح عن الخطاب الإسرائيلي الذي يربط كل هذه الملفات بترتيبات ما بعد الحرب. إلا أن هذه المواقف، رغم وجاهتها السياسية والإنسانية، لا تزال تفتقر إلى أدوات ضغط فاعلة، سواء عبر الأمم المتحدة أو من خلال تفعيل دور عربي جماعي يمكن أن يفرض معادلة سياسية موازية.
يمكن القول إن تصريحات الرئيس عباس تعبّر عن رؤية واضحة تسعى إلى استعادة السلطة دورها في غزة ضمن منظومة دولية – عربية، لكن هذه الرؤية تصطدم بواقع ميداني أكثر تعقيدًا، وبمشروع مقاوم يتجذر في القطاع، وبمواقف داخلية تطالب أولًا بإعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني على أسس الشراكة، قبل الحديث عن من يحكم غزة في اليوم التالي.