في بلدة قباطية جنوب جنين، كانت أم محمد تستيقظ فجراً كعادتها لتحضر طعام الإفطار لعائلتها، لكن صباح ذلك اليوم لم يكن كأي صباح. الباب لم يُطرق، بل دُفع بعنف، وتدفقت قوات الاحتلال إلى المنزل. صُعقت وهي ترى الجنود يقتادون ابنها أحمد، لم يُسمح له حتى بارتداء حذائه. اختفى أحمد، ومنذ تلك اللحظة، تحوّلت حياة العائلة إلى جحيم من الانتظار والبحث.
أحمد وسارة.. مصر مجهول
أسبوعٌ كامل مرّ قبل أن تعرف أم محمد أي شيء عن مكان وجود ابنها. كل ما عرفته جاء عبر محامٍ حقوقي بعد جهود مضنية، إذ كان أحمد محتجزًا في معتقل “عوفر” العسكري، دون تهمة، ودون أن يُسمح للعائلة برؤيته أو الاتصال به. تقول الأم: “أنتظر مكالمة من أي جهة، من محامٍ، من صليب أحمر، من شخص أفرجوا عنه… أي شيء، فقط لأعرف: هل يأكل؟ هل ينام؟ هل يتألم؟”.
وفي الخليل، اعتقلوا إبراهيم وابنته سارة، فجراً أيضاً. لم يكن هناك مبرر واضح، سوى أن الشقيق أمير “مطلوب”، كما قال الجنود. أمضت العائلة ساعات طويلة في الانتظار عند الحواجز العسكرية، تتوسل لمعرفة مصير سارة، الفتاة التي لم تُكمل عامها العشرين بعد. أُفرج عن الأب لاحقاً، لكن سارة بقيت. تقول والدتها: “كأنهم خطفوها من قلبي. لا أدري أين هي، هل ترتجف من البرد، هل تبكي؟ سارة لم تقضِ ليلة واحدة بعيدًا عني من قبل”.
غموض ودموع أسر المعتقلين
وفي نابلس، هناك أم الشاب مجاهد عكوب، الذي أُصيب خلال اقتحام البلدة القديمة ثم اعتُقل مباشرة. كل ما عرفته أن ابنها نُقل مصاباً، لكنها لا تعرف حالته الصحية حتى الآن. تنام قرب الهاتف، ترتجف عند كل صوت رسالة، تتنقل بين المستشفيات، وبين مقار الصليب الأحمر، بين المحامين، وكل الأبواب المغلقة.
تقول: “ما في شيء أصعب من الانتظار، أنا لا أطلب شيئاً كبيراً… فقط أن أسمع صوته يقول لي: أنا بخير، لا تقلقي”.
في طولكرم، عائلة عصام عودة، أمين سر التجمع الوطني لأسر الشهداء، تعيش فصلاً آخر من الألم. اعتقلوا عصام وابنته سارة معاً. ابنة في عمر الزهور، لا ذنب لها سوى أنها تنتمي لعائلة ترفع الصوت من أجل من رحلوا. بعد ساعات، عاد الأب، مكسور النظرات، لكنه لم يجرؤ أن يخبر والدتها بالحقيقة المرة: سارة ما تزال محتجزة، وهم يضغطون عليها لأنها تعرف مكان شقيقها.
طفل يسأل: متى يعود بابا؟
الاعتقال الإداري، التهم غير المحددة، وظروف الاحتجاز المجهولة… كلّها أدوات في آلة القمع. لكن الأكثر قسوة من القضبان هو الغموض. الأهالي لا يعلمون شيئاً. لا تواريخ محاكمات، لا أسماء معتقلات، لا مكالمات هاتفية. فقط الفراغ، والانتظار، والدمع الذي لا ينضب.
ورغم الألم، لم تفقد هذه العائلات كرامتها، ولا إيمانها بعدالة قضيتها. هي حكايات تتكرر كل يوم في بيوت الفلسطينيين، حكايات عن غياب الأحبة، وصبر لا ينكسر. كلّ أسير هناك له أم تنتظر، وأب يبحث، وأخ يطرق الأبواب، وطفل يسأل: “متى يعود بابا؟”