في خضم العلاقة المتوترة بين الجزائر وباريس، والتي لم تهدأ منذ سنوات، عادت الصحافة الفرنسية لتصنع جدلًا جديدًا، هذه المرة عبر بوابة “شارلي إيبدو” التي اختارت الاصطفاف – كما هو معهود عنها – إلى جانب كل ما يسيء لصورة الجزائر، سواء في الداخل أو في الخارج. المقال الذي نشرته المجلة مؤخرًا لم يكن عرضًا صحفيًا محايدًا بقدر ما كان محاولة مفضوحة لتغذية الفتنة الطائفية وتشويه الدولة الجزائرية، من خلال تسليط الضوء على مجموعة من الناشطين الذين يقدمهم الإعلام الفرنسي كـ”ضحايا”، بينما تصنفهم السلطات الجزائرية ضمن تنظيمات مشبوهة تهدد وحدة البلاد واستقرارها.
لقد تجاوز المقال طابعه السردي حين جلس الصحافي الفرنسي في أحد مقاهي حي بيلفيل في الدائرة العشرين من باريس، مع مجموعة من المعارضين المنتمين إلى منطقة القبائل، وراح ينسج من أقوالهم خطابًا لا يخلو من المبالغات، متعمدًا تقديمهم كضحايا “منفيين” و”ممنوعين من الكلام”، رغم أن وجودهم العلني ونشاطهم الإعلامي في باريس يناقض تمامًا هذه الصورة. لم يكن الهدف من اللقاء استقصاء الحقيقة أو فتح نقاش هادئ حول قضايا الهوية والثقافة، بل اختزالها في خطاب تهييجي يوحي بأن الجزائر تسير بنظام قمعي لا يحتمل الاختلاف، وهو خطاب دأبت بعض الدوائر الإعلامية الفرنسية على ترويجه كلما احتدم الخلاف السياسي بين البلدين.
من خلال توصيف المجلة لواقع الجالية القبائلية في فرنسا، بدا واضحًا أن النص يفتقر إلى أدنى درجات التوازن، متجاهلًا الخلفيات القانونية والأمنية التي دفعت الدولة الجزائرية إلى اعتبار بعض هؤلاء الناشطين كأدوات سياسية تخدم أجندات أجنبية معروفة. لم يكن مصادفة أن يتزامن هذا المقال مع التصريحات المتكررة لوزير الاتصال الجزائري، محمد مزيان، الذي لم يتوانَ في أكثر من مناسبة عن التحذير من حملة إعلامية أجنبية تستهدف الجزائر، مستخدمة أدوات “الصحافة المغرضة” التي تُعيد إنتاج صور مشوهة عن الوضع الداخلي، متناسية ما تواجهه الجزائر من تحديات أمنية متفاقمة.
ومن اللافت أن شارلي إيبدو، التي تزعم أنها تدافع عن حرية التعبير، لا تُخفي تحاملها التاريخي على الجزائر، وغالبًا ما تتخذ من قضايا الهوية والتنوع الثقافي مدخلًا للطعن في شرعية الدولة الجزائرية ومؤسساتها. فبدلًا من احترام الخصوصية السيادية لبلدٍ كافح طويلًا ضد الاستعمار الفرنسي من أجل حريته، تواصل المجلة سياساتها الاستفزازية بإخراج الخطاب الانفصالي من عزلته، ومنحه شرعية رمزية لا تنفصل عن المواقف العدائية التي ما تزال تطبع جزءًا من النخبة الإعلامية الفرنسية في تعاطيها مع الجزائر.
الجزائر، التي أثبتت في السنوات الأخيرة أنها قادرة على إدارة ملفاتها الداخلية بسيادة تامة، ترفض بشدة أي تدخل أو إملاءات خارجية، خاصة عندما تأتي في شكل تقارير مشبوهة تتعمد تشويه الواقع وتقديم فئة محدودة من المعارضين كصوت أصيل لمجتمع كامل. وإذا كانت الدولة الجزائرية تعتبر أن حرية التعبير لا تعني تبرير الانفصال أو تمجيد تنظيمات محظورة، فإن من حقها المشروع أن ترد على هذه الحملات الإعلامية التي لا تتورع عن لعب دور المتحدث باسم أجندات خارجية، تتخفى أحيانًا خلف قناع الصحافة، لكنها لا تخدم في نهاية المطاف إلا خطاب الاستعداء والتهييج.
إن ما نشرته شارلي إيبدو لا يمكن عزله عن المناخ الفرنسي العام الذي يسعى إلى تصدير أزماته السياسية والاجتماعية عبر التركيز على ملفات خارجية، في مقدمتها الجزائر. غير أن هذا التمادي في التجني لم يعد يُفاجئ أحدًا، ولا يخيف الدولة الجزائرية التي باتت تدرك جيدًا خلفيات هذا التناول الصحفي المسيس، وتملك من أدوات الرد ما يكفي لتفنيد هذه الروايات المُختلقة.