تشير أعمال التصعيد المستمرة في الضفة الغربية، وخاصة في بلدة بروقين، إلى واقع متشابك تتقاطع فيه العوامل السياسية والأمنية والإنسانية، وتؤكد أن جيش الاحتلال الإسرائيلي، يحمي الهجمات التي نفذها مستوطنون، وفق روايات السكان وشهاداتهم، لم تكن مجرد أعمال تخريبية معزولة، بل جزء من نمط ممنهج ومتكرر يعكس سياسة “فرض الأمر الواقع” على الأرض. وفي هذا السياق، فإن دلالات هذه الأحداث تتعدى حدود المأساة اليومية، لتشكل مؤشرات استراتيجية مهمة تكشف عن توجهات الاحتلال في المرحلة الراهنة.
فرض سياسات تهجير قسري
رغم أن الجيش الإسرائيلي أصدر بيانًا ينفي مسؤوليته المباشرة ويؤكد فتح تحقيق، فإن تكرار السيناريو نفسه حضور المستوطنين بشكل جماعي، تنفيذ الاعتداءات، ثم الانسحاب قبل وصول الجنود يعزز الشكوك حول “التواطؤ الصامت” أو “التقاعس المقصود”. جيش الاحتلال، بصفته الجهة المسؤولة عن “الأمن” في الضفة الغربية، ملزم قانونيًا بحماية السكان الفلسطينيين تحت الاحتلال، وفقًا لاتفاقيات جنيف. لكن غياب الردع، بل وتكرار الهجمات، يعكس فشلًا ممنهجًا أو قرارًا غير معلن بترك المستوطنين يفرضون سياسات تهجير قسري بطرق غير رسمية.
هذا النمط يُستخدم كسلاح “مزدوج الأثر”: من جهة، إرهاب السكان الفلسطينيين لدفعهم للنزوح الطوعي، ومن جهة أخرى، تقديم صورة إعلامية بأن الجيش لا يتحمل مسؤولية مباشرة لأنه لم ينفذ الحرق بنفسه، بل “مدنيون”.
اختلال موازين القوى
تحصيل الحقوق تحت الاحتلال عملية معقدة، خاصة في ظل موازين قوى مختلة، ودعم سياسي وعسكري واضح من قوى دولية لإسرائيل. لكن هناك عدة مسارات تظل قائمة، رغم صعوبتها، حيث يمكن للفلسطينيين، من خلال منظمات المجتمع المدني، رفع دعاوى قانونية في المحاكم الإسرائيلية (رغم محدوديتها)، أو اللجوء للمحكمة الجنائية الدولية. توثيق الجرائم هو خطوة ضرورية، وهو ما تقوم به منظمات مثل بتسيلم وهيومن رايتس ووتش.
في عصر التواصل، باتت حملات التوعية والمناصرة على الإنترنت ذات تأثير. التضامن الدولي يتشكل جزئيًا بناءً على الوعي العام، لذلك الاستمرار في تسليط الضوء على المظالم، وتوثيق الانتهاكات بالصوت والصورة، له قيمة حقيقية. واحدة من أهم أدوات مقاومة التهجير هي البقاء على الأرض رغم كل الظروف. الدعم المجتمعي المتبادل، والزراعة، وإعادة بناء المنازل، كل ذلك يشكل مقاومة فعلية للتهويد.
الضغط السياسي على المستوى الدولي
دور السلطة الفلسطينية في المحافل الدولية، ضروريًا وتصعيد الملفات إلى مجلس الأمن أو الجمعية العامة للأمم المتحدة، والمطالبة بفرض عقوبات على إسرائيل، هي أوراق ضغط يجب عدم التنازل عنها. وذلك يتطلب توحيد الصف الفلسطيني وهو أحد المفاتيح الجوهرية. الانقسام السياسي بين غزة والضفة يضعف الموقف الفلسطيني العام. لا يمكن تحصيل الحقوق دون جسم سياسي موحد يمثل الشعب في كل مكان.
ن ما يجري في بروقين ليس فقط مأساة إنسانية، بل نموذج مصغر لمعركة أكبر تدور على أرض فلسطين منذ عقود: معركة ضد الاحتلال والاستيطان، وضد محاولات كسر الإرادة الفلسطينية. وكل إحراق لمركبة أو بيت هو ليس فقط جريمة، بل رسالة تهديد جماعي. والرد على هذه الرسالة يجب أن يكون جماعيًا أيضًا، من الشعب الفلسطيني أولًا، ومن الضمير العالمي ثانيًا.