في مشهد يختزل وحشية ما جرى، عُثر على جثمان الشاب السوري سليمان رشيد سعد (25 عامًا) في أحد شوارع قرية الرصافة على الساحل السوري، وقد شُقّ صدره وانتُزع قلبه ووُضع فوق جسده. ما صدم عائلته وأربك الرأي العام هو ما حدث بعد ذلك: اتصال مباشر من هاتفه المحمول إلى والده، حيث تحداه القتلة أن يأتي ليتسلم جثة ابنه، التي تُركت قرب صالون حلاقة.
كان اسم سليمان الرقم 56 في قائمة مكتوبة بخط اليد، تضم 60 قتيلًا، معظمهم من أبناء قريته وجيرانه، بينهم ستة أطفال على الأقل. وفقًا لتحقيق استقصائي أجرته وكالة “رويترز”، فإن مجزرة الرصافة كانت واحدة من موجة عنف طائفي دامية استهدفت العلويين، ونُفذت بين 7 و9 مارس/آذار، على يد مقاتلين سنة ينتمون إلى فصائل خاضعة حاليًا لسيطرة الحكومة الجديدة في دمشق.
التحقيق كشف عن تورّط مباشر لما لا يقل عن عشرة فصائل مسلحة، بعضها يضم مقاتلين أجانب، في المجازر، فيما تتوزع هذه الفصائل بين تشكيلات إسلامية كانت سابقًا ضمن “هيئة تحرير الشام”، وأخرى انضمت مؤخرًا إلى منظومة الدولة الجديدة. ويقدّر عدد الضحايا من العلويين في تلك الأيام بثلاثة أضعاف الأرقام المعلنة، إذ وثقت رويترز مقتل نحو 1500 شخص، بالإضافة إلى عشرات المفقودين.
بحسب المصادر، جاءت هذه المجازر في أعقاب تمرد قصير نفذه عسكريون موالون للرئيس المخلوع بشار الأسد، وأسفر عن مقتل المئات من عناصر الأمن، ما فجّر عمليات انتقام طالت المدنيين بشكل واسع في أكثر من 40 موقعًا، وشملت أعمال قتل ونهب وترويع ممنهجة، استهدفت أفراد الطائفة العلوية.
سميرة خضور، أرملة أحد الضحايا، حملت صورة زوجها عبد اللطيف علي في منزلها بجبلة، وهي واحدة من عشرات العائلات التي لا تزال تبحث عن أجوبة في ظل صمت رسمي.
رغم فداحة ما حدث، لم تُصدر الحكومة الجديدة، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، أي رد فعل رسمي على نتائج التحقيق أو الأسئلة التي وجهتها رويترز بشأن ضلوع قوات أمنية وعسكرية في تلك المجازر. ويترأس الشرع – الذي تولى الرئاسة في يناير/كانون الثاني بعد أن قاد هجومًا خاطفًا أطاح بنظام الأسد – حكومة تقودها فصائل متفرعة عن “هيئة تحرير الشام” التي كانت تُصنف دوليًا كمنظمة إرهابية، وكانت تُعرف سابقًا باسم “جبهة النصرة”، الفرع السوري لتنظيم القاعدة.
في تصريحات لرويترز عقب الأحداث، أدان الشرع أعمال القتل، مؤكدًا أنها “تشكّل تهديدًا لوحدة البلاد”، وتعهّد بمحاسبة المسؤولين عنها “مهما كانت انتماءاتهم أو مناصبهم”، حسب قوله. غير أن أقواله لم تُترجم بعد إلى إجراءات ملموسة، في ظل استمرار الغموض المحيط بعمل لجان التحقيق التي وعد بتشكيلها.
من بين أبرز الفصائل المتورطة، وفق التحقيق، “الفرقة 400” ولواء عثمان، وجهاز الأمن العام الذي يعد الجهة الأساسية في إنفاذ القانون. كما شاركت في العمليات فصائل انضمت لاحقًا إلى الحكومة، بينها فرقة السلطان سليمان شاه وفرقة الحمزة، وهما تشكيلان مسلحان سبق أن فرض الاتحاد الأوروبي عليهما عقوبات بسبب انتهاكات جسيمة في مناطق أخرى من سوريا.
وفي مفارقة سياسية لافتة، تأتي هذه التطورات بينما تشرع الإدارة الأمريكية في رفع تدريجي للعقوبات المفروضة على سوريا منذ عهد الأسد، وهو ما يضع واشنطن في موقع حرج، خاصة مع استمرار قيادة البلاد من قبل فصائل لطالما وُصفت بالتطرف، بل وصُنّفت إرهابية.
التحقيق يكشف كذلك فشل الحكومة الجديدة في التخفيف من حالة الاستقطاب الطائفي الحاد، حيث لا يزال العلويون، الذين لعبوا أدوارًا مركزية في مؤسسات النظام السابق، يُعاملون كـ”هدف جماعي” من قبل بعض الفصائل الثائرة، رغم دعوات التهدئة والمصالحة التي لم تجد طريقها إلى التطبيق.
ورغم وعود الرئيس الشرع، فإن غياب أي مساءلة حقيقية عن المجازر الأخيرة يطرح تساؤلات حول مستقبل سوريا ما بعد الأسد: هل يمكن لفصائل وُلدت من رحم العنف والطائفية أن تؤسس لحكم يتجاوز منطق الانتقام؟ أم أن البلاد تسير نحو جولة جديدة من التصفيات الممنهجة تحت مسمى “العدالة الثورية”؟
السوريون اليوم، كما تقول أصوات من الضحايا والناجين، لا يحتاجون فقط إلى تغيير في القيادة، بل إلى تغيير في المنهج، يعيد للدولة معناها، ويضع حدًا لدوامة القتل المفتوح باسم الطائفة أو الثورة.