تشير المعلومات المتوفرة إلى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يمر بمرحلة معقدة ومثيرة للقلق من الناحية العملياتية والنفسية، نتيجة تزايد خسائره في قطاع غزة، خصوصًا بعد الكمين الدامي في بيت حانون، الذي أسفر عن مقتل خمسة جنود وإصابة 14 آخرين، معظمهم من كتيبة “نيتسح يهودا” ذات الطابع الديني الخاص. هذه الحادثة لم تكن مجرد تطور عسكري عابر، بل تحوّلت إلى لحظة مفصلية أثارت موجة من الصدمة والتساؤلات داخل إسرائيل حول فعالية العمليات الجارية ومستقبل التورط البري في غزة.
ضعف أمني استخباراتي
يُمكن القول إن الخسائر البشرية التي يتكبدها الجيش الإسرائيلي – والتي بلغت 449 جنديًا في الهجوم البري وحده، و888 جنديًا منذ بداية الحرب – بدأت تشكّل عبئًا نفسيًا واستراتيجيًا حقيقيًا. ففي بيئة قتالية معقدة كما هو الحال في غزة، وفي ظل اعتماد المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها “كتائب القسام”، على أساليب الكمائن والتفجيرات والأنفاق، يجد الجيش نفسه عاجزًا عن فرض سيطرة دائمة أو تحقيق إنجاز حاسم، وهو ما يضع الجنود في حالة استنزاف مستمرة ومرهقة.
كمين بيت حانون كشف عن ضعف أمني استخباراتي مقلق، رغم أن المنطقة تم تمشيطها جويًا مسبقًا، ما يعكس إصرار المقاومة على تطوير تكتيكاتها في بيئة مألوفة لها مقابل قوات احتلال قد تستنزف دون نتائج واضحة. كما أن استهداف كتيبة الحريديم – التي لها خصوصية دينية واجتماعية داخل إسرائيل – قد يخلق أثرًا مضاعفًا داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، خاصة أن هذه الكتيبة تمثل شريحة غير تقليدية في الخدمة العسكرية، ويُنظر إليها على أنها مؤشر لدمج شرائح دينية محافظة ضمن المؤسسة العسكرية.
تآكل الثقة في القيادة السياسية
من الناحية المعنوية، بات واضحًا أن الجيش يواجه أزمة داخلية تتجاوز الجبهة. النقد الداخلي، الذي طفا على السطح من خلال أصوات إعلاميين ومحللين عسكريين وأسر جنود، يعكس تآكل الثقة في القيادة السياسية والعسكرية على حد سواء. فمع تزايد عدد الجنائز، بدأت عائلات الجنود تطالب بإجابات، والمجتمع الإسرائيلي يعيش حالة من التناقض بين الصور الرسمية التي تُروج “للانتصارات” وواقع الخسائر المتراكمة يوميًا.
الكمائن والتفجيرات، التي تُعد السبب الرئيسي في أكثر من 70٪ من القتلى، أدت إلى تشكل قناعة داخل الأوساط الإسرائيلية أن استمرار التوغل البري لا يحقق إلا مزيدًا من الخسائر، مع احتمال الدخول في ما يُشبه “حرب استنزاف” طويلة الأمد تشبه ما عاشته إسرائيل في لبنان بعد 1982. هذه المخاوف ليست تحليلًا إعلاميًا فقط، بل تنعكس أيضًا في مواقف عسكرية وسياسية مترددة ومتناقضة، بين من يدعو لتوسيع الحرب ومن يطالب بإعادة النظر في جدواها.
فقدان ثقة داخلي ودولي
إن معركة بيت حانون ليست مجرد حدث عسكري، بل هي مؤشر على المأزق الذي دخلته إسرائيل: جيش مكشوف داخل أراضٍ معادية، هدفه غير واضح، قيادته السياسية تعاني من فقدان ثقة داخلي ودولي، والرأي العام الإسرائيلي يزداد انقسامًا. وفي هذا السياق، فإن كل جندي يُقتل أو يُصاب في غزة يضيف مزيدًا من الضغط النفسي والسياسي، ويغذي شعورًا عامًا بأن الحرب لم تعد تملك هدفًا استراتيجيًا حقيقيًا، بل باتت عبئًا مكلفًا بلا أفق.
يمكن القول إن الكلفة البشرية التي يتكبدها جيش الاحتلال بدأت تُحدث تصدعات في المعنويات، وتُعيد إلى الذاكرة الإسرائيلية تجارب دامية سابقة مثل لبنان، في وقتٍ تبدو فيه القيادة السياسية منشغلة بتبرير الاستمرار لا بإعادة التقييم. وإذا ما استمرت هذه الوتيرة من الاستنزاف، فإن التأثير قد لا يقتصر على الجبهة العسكرية فقط، بل ربما يمتد إلى بنية القرار السياسي وأسس العلاقة بين الجيش والمجتمع في إسرائيل.