في خضم تفاعل إعلامي متسارع أثارته تصريحات الأكاديمي الجزائري محمد بلغيث على قناة “سكاي نيوز” الإماراتية، والتي اتهم فيها دولة الإمارات بأنها لا تملك “هوية تاريخية”، برزت إلى السطح أزمة مكتومة بين الجزائر وأبو ظبي، كان يجري احتواؤها لسنوات داخل قنوات دبلوماسية وأمنية مغلقة. إلا أن اللحظة الراهنة تشي بتحول نوعي في العلاقة بين البلدين، وتحول الخلاف من نطاق الخفاء إلى دائرة الضوء.
تحركات إماراتية مريبة في الجوار الإقليمي
بعيدًا عن التصريحات، تكمن جذور التوتر في تحركات إماراتية اعتبرتها الجزائر “استفزازًا مباشرًا” يمس أمنها القومي، وخاصة في مالي وليبيا. فالجزائر التي تنظر إلى الساحل الإفريقي باعتباره عمقها الاستراتيجي، لم تخف انزعاجها المتكرر من الحضور العسكري والسياسي المتزايد للإمارات في مالي عبر دعم جماعات انفصالية مناوئة لحكومة باماكو التي ترتبط بعلاقات تنسيقية وثيقة مع الجزائر.
فقد تكررت تقارير استخباراتية تشير إلى دعم لوجستي ومالي تقدمه أبو ظبي لحركات تمرد طوارقية ومجموعات مسلحة تعمل خارج إطار الدولة، مستفيدة من تراجع الحضور الغربي وتنامي النفوذ الروسي في المنطقة. وهو ما تعتبره الجزائر محاولة لفرض أجندة إماراتية في منطقة تعتبرها امتدادًا طبيعيًا لنفوذها الأمني.
أما في ليبيا، فلا يخفى أن الدعم الإماراتي للواء المتقاعد خليفة حفتر لطالما وضع الجزائر في موضع المتحفظ أو المعارض، بالنظر إلى أن الجزائر تميل تاريخيًا إلى دعم الحلول السياسية وإلى حكومة طرابلس ذات التوجهات المدنية، ما جعل الإمارات والجزائر في جبهتين متعارضتين طوال سنوات الحرب الليبية.
توتر خفي منذ عهد بوتفليقة
ورغم أن هذا التوتر بلغ ذروته مؤخرًا، إلا أن بوادره تعود إلى سنوات طويلة، حيث كانت العلاقات الجزائرية–الإماراتية تشهد ما يمكن وصفه بـ”الهدوء المتوتر”. إذ أن النظام الجزائري في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، تغاضى عن تلك التناقضات السياسية، نظير علاقات اقتصادية شابها الكثير من الغموض.
فقد لعب عدد من رجال الأعمال الجزائريين الموالين لعصبة الحكم القديمة دور الوسيط الاقتصادي مع مستثمرين إماراتيين نافذين، لا سيما في قطاع العقارات والخدمات والبنوك، في صفقات طبعها انعدام الشفافية. لكن الجزائر الجديدة – وفق التعبير الرسمي المتداول – تسعى إلى القطع مع هذه الحقبة، وترفض منطق التبعية الاقتصادية أو المواربة السياسية.
منطق الندية.. وميل الكفة
في ظل التحولات التي أعقبت الحراك الشعبي في 2019، باتت الجزائر أكثر تمسكًا بمنطق الندية في علاقاتها الخارجية، بما في ذلك مع دول الخليج، التي كانت تُعامل سابقًا بنوع من الحذر المصلحي. لكن مع تصاعد الانخراط الإماراتي في نزاعات الجوار، لم يعد بالإمكان الفصل بين الاقتصادي والسياسي.
ويبدو أن الرد الإماراتي جاء عبر نوافذ الإعلام والنخب الموالية، وهو ما يفسر السماح ببث تصريحات أكاديمية جزائرية مثيرة للجدل على منبر إعلامي تموله أبو ظبي. هذا النوع من التصعيد الإعلامي يخفي خلفه رسالة سياسية موجهة إلى السلطة الجزائرية مفادها أن للإمارات أدوات تأثير قادرة على الإحراج أو الضغط.
احتمالات التصعيد.. وحدود الرد الجزائري
الجزائر، من جهتها، ورغم قدرتها على اتخاذ خطوات أكثر حدة، كفرض قيود على الاستثمارات الإماراتية – وأبرزها تلك المرتبطة بشركات عقارية أو خدمات مالية – إلا أن الإقدام على هكذا إجراءات قد يفتح الباب أمام تحكيم دولي ستحاول من خلاله الإمارات فرض تعويضات بموجب اتفاقات الاستثمار الثنائية.
لذلك، فإن المرجح في المرحلة المقبلة هو أن تكتفي الجزائر بالحفاظ على مستوى الأزمة في حدود التراشق الإعلامي غير الرسمي، مع توجيه رسائل سياسية صلبة عبر تصريحات المسؤولين، أو من خلال إعادة تقييم تموقعاتها في ملفات إقليمية تتقاطع فيها المصالح مع الإمارات.
كما يُتوقع أن تشهد الدبلوماسية الجزائرية تحركات هادئة لإبلاغ العواصم المؤثرة، خاصة بكين و موسكو، بقلقها من الدور الإماراتي في الساحل، بما يضع حدًا لمحاولات أبو ظبي فرض معادلة جديدة في منطقة حساسة.
خلاصة
التصعيد الأخير بين الجزائر والإمارات ليس ناتجًا عن تصريح عابر، بل هو تتويج لمسار طويل من التناقضات الجيوسياسية والصدامات غير المعلنة. وبقدر ما تحاول الجزائر أن تحافظ على “الصورة الهادئة” في الخارج، فإنها تدرك أن التحديات الإقليمية تفرض عليها تعديل أسلوبها التقليدي في التعاطي مع أطراف طامحة لتوسيع نفوذها على حساب الاستقرار الإقليمي.