تواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي ارتكاب جرائم ممنهجة بحق المدنيين في قطاع غزة، في تصعيد دموي لا يراعي أبسط القواعد الإنسانية أو القوانين الدولية، وذلك في وقت حساس تتجه فيه الأنظار إلى المفاوضات الجارية بشأن وقف محتمل لإطلاق النار. لكن ممارسات الاحتلال تعكس من جديد حقيقة السياسة الإسرائيلية القائمة على استخدام القوة المفرطة ضد السكان العزل، وخصوصًا في لحظات يفترض أن تتسم بالتهدئة والانفراج السياسي.
استهداف عشوائي وممنهج للمدنيين
القصف الذي طال عشرات النازحين في مدينة غزة ومدينة خان يونس، وأسفر عن استشهاد 32 فلسطينيًا، بينهم نساء وأطفال، منذ فجر الأحد، ليس مجرد تطور ميداني، بل هو تجسيد صارخ لنمط متكرر من الاستهداف العشوائي والممنهج للمدنيين، سواء في منازلهم أو داخل خيام النزوح أو حتى قرب المستشفيات. هذا النوع من الهجمات يُظهر استخفافًا مروعًا بالمدنيين، ويعكس رغبة إسرائيلية في فرض معادلة جديدة على الأرض قوامها: لا ملجأ آمن في غزة، حتى تحت مظلة المساعدات الإنسانية أو في مناطق النزوح التي يُفترض أنها “آمنة نسبيًا”.
ما يُثير القلق بشكل أكبر هو تكثيف استهداف التجمعات السكنية والخيام في منطقة المواصي، وهي التي سبق أن صنفتها إسرائيل نفسها كـ”مناطق إنسانية”. لكن هذا التصنيف سرعان ما أصبح خدعة ميدانية لجمع المدنيين في نقاط مكشوفة قبل توجيه القصف إليها، وهو ما يُفسّر ارتفاع أعداد الضحايا بين الأطفال والنساء في تلك المواقع. ويضاف إلى ذلك القصف المتكرر الذي يطال محيط المستشفيات مثل مجمع ناصر الطبي، في تحدٍّ واضح للمواثيق الدولية التي تحظر استهداف المنشآت الطبية وتعتبرها مناطق محمية.
ازدواجية واضحة في النهج الإسرائيلي
اللافت أن هذا التصعيد العسكري يتزامن مع تحركات دبلوماسية مكثفة، بما في ذلك إرسال وفد إسرائيلي إلى قطر للمشاركة في محادثات وقف إطلاق النار. هذا التناقض يكشف عن ازدواجية واضحة في النهج الإسرائيلي: من جهة، محاولة الحفاظ على واجهة تفاوضية أمام المجتمع الدولي، ومن جهة أخرى، استخدام التصعيد كأداة ضغط عسكرية لفرض شروط تفاوضية ميدانية، على حساب أرواح المدنيين.
ولا يمكن فصل هذه الجرائم عن السياق الأوسع للعدوان الذي استؤنف منذ مارس/آذار، بعد انهيار اتفاق وقف إطلاق النار السابق، حيث ارتكبت قوات الاحتلال منذ ذلك الحين مجازر دامية أدت إلى استشهاد نحو 6800 فلسطيني، وإصابة ما يزيد على 24 ألفًا، في تصعيد لم يسبق له مثيل في تاريخ الحروب الإسرائيلية على القطاع. ومن بين الشهداء، أكثر من 700 شخص تم استهدافهم في محيط مراكز توزيع المساعدات، في دلالة على أن حتى محاولة الفلسطينيين الحصول على الغذاء أصبحت تهمة تكفي لإعدامهم ميدانيًا.
تفكيك المجتمع الفلسطيني
الأخطر في هذا المشهد الدموي، أن الاحتلال الإسرائيلي لم يكتف بالقصف العنيف، بل عمد إلى تدمير منظم للبنية التحتية المدنية في المناطق الشرقية من غزة، مثل حي الشجاعية والتفاح والزيتون، عبر عمليات نسف منظمة للمنازل والمنشآت. هذا النمط من القصف التدميري لا يمكن تفسيره على أساس الضرورات العسكرية، وإنما يدخل ضمن سياسة العقاب الجماعي التي تهدف إلى تفريغ المناطق من سكانها وترسيخ واقع تهجيري جديد بالقوة.
تُظهر هذه الجرائم الإسرائيلية في غزة أن الاحتلال لا يزال يراهن على تفكيك المجتمع الفلسطيني من الداخل، ليس فقط عبر القصف وإنما من خلال استهداف مراكز الإيواء والمساعدة، في سياسة واضحة لتجريد السكان من أبسط مقومات البقاء. وفي ظل صمت دولي متزايد، تواصل إسرائيل تنفيذ سياساتها دون رادع، معولة على الغطاء السياسي الأميركي والدولي الذي يغض الطرف عن الانتهاكات اليومية، رغم التوثيق الميداني المستمر لحجم الجرائم التي تُرتكب بحق المدنيين، والتي قد ترقى إلى مستوى جرائم الحرب حسب توصيف القانون الدولي الإنساني.