تمرّ سوريا بمنعطفٍ مصيري بعد فرار بشار الأسد وسقوط النظام السابق، حيث وجدت البلاد نفسها أمام فراغٍ سياسيٍ انتهت معه ولاية حكومة تصريف الأعمال مع نهاية شباط الماضي، وسط ترقّبٍ شعبيٍ وسياسيٍ لتشكيل حكومةٍ انتقاليةٍ من المفترض أن تُعلن مطلع آذار الجاري بعد مؤتمر الحوار الوطني. لكن المؤتمر، الذي كان يُفترض أن يشكّل محطةً أساسيةً لإعادة ترتيب المشهد السوري، انعقد في ظروفٍ غير مثالية، وسط استعجالٍ واضحٍ في تنظيمه وعددٍ ضخمٍ من المشاركين خلال مدةٍ قصيرةٍ جداً، مما أثار تساؤلاتٍ بشأن جِدّيته ومدى فاعليته في التأسيس لمرحلةٍ جديدةٍ قائمةٍ على أسسٍ سياسيةٍ متينة.
في ظلّ هذا المشهد، يطرح السوريون سؤالاً جوهرياً: هل تتجه البلاد نحو حكومةِ كفاءاتٍ وطنيةٍ قادرةٍ على تحمّل المسؤوليات السيادية والأمنية والاقتصادية والمعيشية؟ أم أن توازنات القوى ستفرض حكومةَ مراضاةٍ سياسيةٍ هدفها الأساسي تعزيز سلطةٍ تقارب اللون الواحد، بغضّ النظر عن كفاءتها أو قدرتها على إدارة المرحلة؟
الإطار السياسي الراهن: سلطة جديدة أم إعادة إنتاج الأزمة؟
مع وصول هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها إلى السلطة، وتعيين أحمد الشرع رئيساً انتقالياً، باتت سوريا أمام معادلةٍ سياسيةٍ جديدةٍ تحمل في طيّاتها تحدّياتٍ كبرى. فعلى الرغم من انهيار النظام السابق، إلا أن طبيعة التغيير الحاصل لا تزال موضع تساؤل: هل نحن أمام تحوّلٍ حقيقيٍ نحو دولةِ المؤسساتِ والقانون، أم أن البلاد دخلت مرحلةً انتقاليةً قد تعيد إنتاج الأزمات بصيغٍ جديدة؟
لا يمكن تجاهل أن ميزان القوى الحالي تشكّل في سياقِ صراعٍ طويلٍ أفرز واقعاً معقداً، حيث تباينت المصالح الداخلية والخارجية، وتداخلت الاعتبارات العسكرية والسياسية والاقتصادية. وبينما يأمل البعض في أن تكون هذه التطورات مقدّمةً لمرحلةٍ من الاستقرار، فإن المخاوف قائمةٌ من أن تؤدي الصراعات البينية إلى استمرار حالة الانقسام، مما قد يعرقل جهود بناء الدولة ويؤجل تحقيق أهداف الثورة السورية في الحرية والعدالة والتنمية.
انعقد مؤتمر الحوار الوطني في شباط الماضي وسط آمالٍ بأن يكون خطوةً جادّةً نحو إعادة ترتيب المشهد السياسي، لكنه جاء محاطاً بالكثير من الانتقادات، خصوصاً فيما يتعلّق بسرعة انعقاده والعدد الكبير من المشاركين خلال مدةٍ قصيرةٍ جدّاً. بدا واضحاً أن الاستعجال في تنظيمه لم يمنح المشاركين فرصةً كافيةً لدراسة الملفات الحيوية بعمقٍ، مما أضعف قدرته على إنتاج مخرجاتٍ واضحةٍ وملزمةٍ. وذلك لأسبابٍ أهمها:
- غياب التمهيد الكافي: لم يسبق المؤتمرَ نقاشاتٌ تحضيريةٌ حقيقيةٌ تجمع الأطراف الفاعلة، مما أدّى إلى ضعف التوافقات بشأن القضايا الأساسية.
- العدد الكبير من المشاركين: في ظلّ وجود عددٍ ضخمٍ من الحضور، أصبح من الصعب إجراء نقاشاتٍ مركّزةٍ ومنهجيةٍ، حيث طغت الفوضى على كثيرٍ من الجلسات.
- التسرّع في انعقاده قبل تشكيل الحكومة الانتقالية: بدلاً من أن يكون المؤتمر مساحةً لنقاشٍ هادئٍ وعميقٍ بشأن طبيعة الحكومة المقبلة، بدا وكأنه محاولةٌ لإضفاء شرعيةٍ سريعةٍ على السلطة الجديدة، مما أثار مخاوفَ من أن يكون مجرد إجراءٍ تكتيكيٍّ لإرضاء بعض الأطراف من دون وضع أسسٍ حقيقيةٍ للحكم الرشيد.
في المحصّلة، لم يكن المؤتمر قادراً على إنتاج رؤيةٍ سياسيةٍ متكاملةٍ، مما سيجعل عملية تشكيل الحكومة الانتقالية عرضةً للتجاذبات السياسية، بدلاً من أن تكون خطوةً واثقةً نحو بناء مؤسساتِ الدولةِ الجديدةِ.
العربدة الإسرائيلية في سوريا.. التداعيات على الأمن الإقليمي والدولي
ما الذي يريده السوريون؟ بين حكومة الكفاءات وحكومة التوافقات السياسية
في ظلّ هذه الظروف، تتجه الأنظار نحو طبيعة الحكومة الانتقالية القادمة، حيث يبرز خياران رئيسيان:
-
حكومة كفاءات وطنية
- تستند إلى معاييرَ واضحةٍ في اختيار الشخصيات القادرة على إدارة الدولة وفق رؤيةٍ وطنيةٍ جامعةٍ.
- تركّز على الملفات السيادية (الأمن، السياسة الخارجية، استعادة هيبة الدولة)، وتضع خططاً اقتصاديةً تنمويةً تنهض بالبلاد من أزماتها.
- تتمتع بشرعيةٍ شعبيةٍ قائمةٍ على تمثيلٍ حقيقيٍّ لمختلف مكونات المجتمع السوري، وتكون قادرةً على بناء مؤسساتٍ فعّالةٍ مستقلةٍ عن الإملاءات الفصائلية أو الخارجية.
-
حكومة مراضاة سياسية
- تسعى إلى تحقيق التوازن بين القوى المسيطرة حالياً، بهدف تجنّب الصراعات الداخلية وتثبيت الاستقرار المؤقّت.
- قد تؤدّي إلى تكرار أخطاء الماضي عبر تغليب منطق المحاصصة على حساب الكفاءة، مما قد يضعف الأداء الحكومي ويؤدي إلى عرقلة الإصلاحات المطلوبة.
- تحمل مخاطرَ ترسيخِ سلطةٍ جديدةٍ أقربَ إلى اللون الواحد، قد تسعى لإقصاء أطرافٍ أخرى تحت مبرّرات الاستقرار السياسي أو التوافق المرحليّ.
في ظلّ هذا الجدل، يواجه أيُّ تشكيلٍ حكوميٍّ قادمٍ جملةً من التحدّيات، أبرزها:
- الأمن والاستقرار الداخلي: تأمين المناطق المحرّرة ومنع الفوضى والانقسامات الداخلية، مع إعادة بناء أجهزةٍ أمنيةٍ تضمن الأمن من دون أن تتحوّل إلى أدواتٍ للقمع السياسيّ.
- إعادة بناء المؤسسات: الانتقال من سلطةِ الأمرِ الواقعِ إلى دولةِ المؤسساتِ يتطلّب إعادة هيكلة الإدارة العامة، وتحصين القضاء، وإطلاق عمليةٍ سياسيةٍ تضمن تمثيلاً عادلاً لكل السوريين.
- الاقتصاد والمعيشة: بعد سنواتٍ من التدمير الممنهج، تحتاج سوريا إلى حكومةٍ قادرةٍ على إطلاق خططِ إنعاشٍ اقتصاديٍّ حقيقيةٍ، تجذب الاستثمارات وتوفّر فرصَ العملِ، بدلًا من الاعتماد على اقتصادِ الحربِ وآلياته.
- التوازنات الإقليمية والدولية: لا يمكن فصل الواقع السوري عن تعقيداتِ المشهدِ الإقليمي، حيث تتداخل مصالحُ الدول الكبرى مع مستقبل البلاد، مما يجعل من الضروري تبنّي سياساتٍ خارجيةٍ متوازنةٍ تحمي السيادةَ الوطنيةَ بدون الانجرار إلى تحالفاتٍ مرتهنةٍ للخارج.
السوريون اليوم أمام مفترقِ طرقٍ حاسمٍ: إما أن يتجهوا نحو بناءِ دولةٍ قائمةٍ على الكفاءةِ والشرعيةِ الشعبيةِ، تحقّق طموحاتهم في العدالة والتنمية والاستقرار، أو أن يسلكوا طريقَ المحاصصاتِ السياسيةِ الذي قد يؤدّي إلى تكرارِ تجربةِ الاستبدادِ بأشكالٍ جديدةٍ.
لقد أظهر مؤتمرُ الحوارِ الوطنيّ أن الاستعجالَ في اتخاذِ القراراتِ المصيريةِ دون تهيئةِ بيئةٍ حواريةٍ حقيقيةٍ، قد يعرّض المرحلةَ الانتقاليةَ للاضطرابِ بدلاً من أن يكون نقطةَ انطلاقٍ نحو مستقبلٍ أكثرَ استقراراً.
ولذلك، فإن أيَّ حكومةٍ انتقاليةٍ تُشكَّل اليوم، عليها أن تعي أن الشرعيةَ الحقيقيةَ لا تُمنح من مؤتمراتٍ تُعقد على عجلٍ، بل من قدرتها على تقديمِ حلولٍ واقعيةٍ تعالج أزماتِ السوريين وتؤسّس لحكمٍ رشيدٍ ومستدامٍ.