مع غروب شمس الجمعة 13 يونيو، بدأت الموجة الثانية من الغارات الجوية الإسرائيلية تستهدف العاصمة الإيرانية طهران، في تصعيد غير مسبوق من حيث التوقيت والنطاق الجغرافي والتكتيكات العسكرية المستخدمة. استمرت الغارات على فترات متقطعة حتى فجر اليوم التالي، لتتحول سماء العاصمة الإيرانية إلى مسرح مفتوح لعمليات دفاع جوي مكثفة، وسط أصوات محركات الطائرات المسيّرة التي لم تهدأ طوال الليل.
المشهد الجوي خلال تلك الليلة العصيبة كان متغيرًا ومتعدد الأبعاد؛ من شمال المدينة إلى جنوبها، ومن غربها إلى شرقها، انطلقت صفارات الإنذار مرارًا، وترددت أصوات المضادات الأرضية، وسط حالة من الذعر والقلق لدى سكان العاصمة الذين وجدوا أنفسهم وسط معركة بالوكالة تدور فوق رؤوسهم.
تغيّر في التكتيك: الطائرات المسيّرة في الواجهة
أحد أبرز ملامح الموجة الثانية كان الاستخدام الكثيف للطائرات المسيّرة الإسرائيلية، في مؤشر على تحول استراتيجي في آليات الهجوم. فعلى خلاف الموجة الأولى التي تميزت بغارات دقيقة استهدفت شخصيات ومواقع نوعية، جاءت الموجة الثانية لتوسّع الاستهدافات وتضرب بنية تحتية واسعة النطاق، معتمدة بدرجة كبيرة على الطائرات دون طيار، ما منح الجيش الإسرائيلي مرونة أكبر في اختراق الدفاعات الجوية الإيرانية وتنفيذ ضربات متعددة ومتزامنة.
الطائرات المسيّرة كانت حاضرة بقوة فوق مناطق حيوية من العاصمة، أبرزها محيط مطار “مهرآباد” الدولي، وشارع “معلم”، وحي “يافت آباد”، وحتى أحياء مركزية مثل “ولي عصر” و”شريعتي”. تسجيلات مرئية من مواقع التواصل الاجتماعي أظهرت دوي انفجارات متتابعة وإطلاق نار كثيف من الدفاعات الأرضية الإيرانية.
تعدد الأهداف وتوسع النطاق
بحسب مصادر محلية وشهادات متقاطعة، فإن الموجة الثانية من الهجمات لم تقتصر على أهداف عسكرية تقليدية، بل شملت منشآت حيوية ومراكز أبحاث ومخازن أسلحة ومواقع تصنيع، بما في ذلك منشآت تابعة للحرس الثوري ومنظمة الطاقة الذرية ووزارة الدفاع. هذا التوسع في الأهداف يعكس، من جهة، رغبة إسرائيل في تقويض القدرة الدفاعية الإيرانية، ومن جهة أخرى، إيصال رسائل استراتيجية بأن الخطوط الحمراء التقليدية قد تم تجاوزها.
في شارع “معلم”، وسط العاصمة، تحدث شهود عن انفجارات يُعتقد أنها أصابت قاعدة “ولي عصر” أو مبنى هيئة الأركان العامة. أما في ميدان “سباه”، فقد تردد أن المجمع العسكري هناك، التابع للحرس الثوري، كان من بين الأهداف المباشرة.
استهداف رموز النظام ومراكز الثقل السياسي
لم تكن المواقع العسكرية وحدها في مرمى الهجمات. التقارير تحدثت عن احتمال استهداف مواقع سيادية في قلب العاصمة، لاسيما شارع “باستور”، الذي يضم مقر المرشد الأعلى علي خامنئي، إلى جانب مؤسسات عليا في الدولة مثل مبنى الرئاسة. ورغم التكتم الرسمي، إلا أن المؤشرات الميدانية تعزز فرضية أن الهجمات الإسرائيلية قد اقتربت بشكل غير مسبوق من مراكز صناعة القرار الإيراني.
مصادر إسرائيلية، من جانبها، ألمحت إلى نية تل أبيب الرد على الهجمات الصاروخية الإيرانية الأخيرة باستهداف مباشر لقيادات النظام الإيراني وتدمير البنى التحتية لقطاعي النفط والغاز، في مسعى للضغط على المؤسسة السياسية الحاكمة وخلخلة استقرارها الداخلي.
العاصمة تحت الحصار: جغرافيا الغارات
طهران، بحجمها الكبير وتعقيداتها العمرانية، تعرضت لغارات شملت مختلف اتجاهاتها. في غرب العاصمة، وبالقرب من مطار “مهرآباد”، كانت الانفجارات عنيفة بشكل لافت، ما يعزز الشكوك حول استهداف حظائر الطائرات ومستودعات الأسلحة في المطار. سكان “أكباتان” وصفوا الهجمات بأنها “الأكثر رعباً” منذ اندلاع التوتر.
في الشرق، وتحديدًا في منطقتي “نيروي هوايي” و”بيروزي”، كانت الهجمات مركّزة ومنظمة، ويُعتقد أنها استهدفت منازل قادة في الحرس الثوري ومراكز اتصالات ورادارات. قاعدة “دوشان تبه”، وهي من أقدم القواعد العسكرية في البلاد، كانت أيضاً هدفًا محتملًا، خاصة مع نشاط دفاعي مكثف سُجّل في محيطها.
أما في الجنوب الشرقي، وتحديداً منطقة “حكيمية”، فقد تم رصد انفجارات عنيفة رجّح مراقبون أنها ناجمة عن استهداف منشآت لصناعة الطائرات المسيرة ومعاهد أبحاث تابعة لوزارة الدفاع. قرب هذه المنطقة، تقع “خجير”، التي تضم شبكة من الأنفاق والمستودعات العسكرية تحت الأرض، وهي منطقة سبق أن تعرضت لهجمات إسرائيلية في سنوات سابقة.
وفي غرب طهران، شهدت منطقة “چيتكر” سلسلة انفجارات استمرت حتى فجر اليوم، فيما تم تداول مقاطع مصورة تُظهر تصاعد دخان كثيف من محيط برج الاتصالات في منطقة “ورد آورد”، في إشارة إلى إمكانية استهداف البنية التحتية الاتصالية، وهو ما يشير إلى نية إسرائيل تعطيل شبكات التنسيق العسكرية والإدارية الإيرانية.
دلالات التصعيد وخيارات الرد
التحول من ضربات نوعية محدودة إلى عمليات واسعة النطاق تشمل قلب العاصمة الإيرانية، يعكس انتقالاً في منطق الصراع بين إسرائيل وإيران من حروب الظل إلى المواجهة شبه المباشرة. وبغض النظر عن مدى الأضرار الدقيقة، فإن ما جرى يُعدّ رسالة سياسية وعسكرية واضحة من تل أبيب، مفادها أن العمق الإيراني لم يعد محصناً كما كان يُعتقد، وأن قواعد الاشتباك تتغير على نحو متسارع.
في المقابل، من المتوقع أن يكون الرد الإيراني حذراً ومدروساً، لا سيما في ظل هشاشة الوضع الاقتصادي والسياسي الداخلي، ومحدودية القدرة على خوض حرب شاملة في الوقت الراهن. لكن في الوقت نفسه، لا يمكن استبعاد خيار الرد عبر وكلاء طهران في الإقليم، أو من خلال تصعيد محدود في جبهات خارجية كالعراق وسوريا ولبنان.
خلاصة أولية
لم تعد الهجمات على طهران مجرد رسائل ردعية متبادلة، بل باتت جزءًا من معركة مفتوحة على الجغرافيا والسيادة. وإذا ما تواصل هذا النسق من التصعيد، فإن المنطقة قد تدخل مرحلة جديدة تتخطى الضربات المحدودة لتقترب من شبح المواجهة الشاملة، خاصة إذا انزلقت الأهداف نحو المدنيين أو المرافق الحيوية الكبرى.
في هذا المشهد، تبقى كل الاحتمالات مفتوحة، بينما تترقب العواصم الكبرى تداعيات الليلة الطويلة التي عاشتها طهران.