فتحت العملية الإسرائيلية واسعة النطاق التي استهدفت قادة بارزين في الحرس الثوري وعلماء نوويين إيرانيين، فجر تساؤلات حساسة حول مستقبل منظومة القرار في طهران. فقدان هذه النخبة دفعة واحدة لا يشكل فقط ضربة رمزية للنظام، بل يُحدث خلخلة عميقة في بنيته الأمنية والتقنية، نظراً لأن الشخصيات المستهدفة كانت تشكل نواة ما يوصف بـ”العقول الحاكمة” داخل أكثر المؤسسات حساسية.
المحصلة الأولية للهجوم كشفت عن مقتل أربعة من كبار قادة الحرس الثوري الإيراني، إضافة إلى اثنين من أبرز العلماء العاملين في المجال النووي. وهو ما يُعد أكبر خسارة في صفوف النخبة منذ اغتيال قائد “فيلق القدس” قاسم سليماني مطلع عام 2020، بما يعكس تحولًا نوعيًا في تكتيكات إسرائيل التي اختارت هذه المرة إصابة “الدماغ” لا الذراع.
محمد باقري: سقوط رأس الهرم العسكري
في مقدمة قائمة المستهدفين، يأتي اللواء محمد باقري، رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية، وأحد أكثر القادة قربًا من المرشد علي خامنئي. الرجل الذي ارتبط اسمه منذ عقود بمواقع القرار في أجهزة الاستخبارات العسكرية، لعب دوراً محورياً في إعادة هيكلة المنظومة الدفاعية الإيرانية بعد الاتفاق النووي عام 2015. عيّنه خامنئي بنفسه في 2016، وتم إدراجه لاحقًا في قائمة العقوبات الأميركية ضمن ما يُعرف بـ”نواة السلطة غير المنتخبة” المحيطة بالمرشد. مقتل باقري يترك فراغًا في موقع يجمع بين القيادة العملياتية والتوجيه العقائدي.
حسين سلامي: خطاب التصعيد ينتهي على الأرض
اللواء حسين سلامي، قائد الحرس الثوري منذ عام 2019، كان من أشد الأصوات الإيرانية حدة في الخطاب ضد إسرائيل والولايات المتحدة. لطالما ظهر في المناسبات العامة محذرًا من “فتح أبواب الجحيم” إذا ما جُرّت إيران إلى مواجهة شاملة. لكن نهاية سلامي جاءت على نحو يتناقض مع لهجته المتصلبة. الرجل الذي بدأ مسيرته العسكرية عام 1980 وقاد لاحقًا القوات الجوية للحرس، قبل أن يُعيّن نائبًا للقائد ثم قائدًا عامًا، انتهت رحلته في غارة وُصفت بأنها “صامتة وسريعة”، لتُسدل الستار على أحد أبرز رموز “العقيدة الهجومية” الإيرانية.
أمير علي حاجي زاده: نهاية مهندس الردع
اغتيال اللواء أمير علي حاجي زاده، قائد القوة الجوفضائية بالحرس الثوري، يُعد بحد ذاته تطورًا استثنائيًا. فالرجل الذي أشرف على تطوير البرنامج الصاروخي الإيراني، وعُرف بدوره الريادي في منظومة الطائرات المسيّرة، كان يشكل رأس الحربة في نظرية الردع الإيرانية. الحرس الثوري نفسه وصفه في مناسبات عدة بأنه “العقل التقني” الذي استطاع تحييد التفوق الجوي الإسرائيلي في بعض جبهات الصراع غير المعلنة. غيابه قد ينعكس بشكل مباشر على قدرة طهران في الحفاظ على توازن الردع، خصوصًا في ظل التحديات التي تواجهها منظومتها الدفاعية.
غلام علي رشيد: المنسق الهادئ الذي لم يسلم
من خلف الأضواء، لعب اللواء غلام علي رشيد دورًا بالغ الأهمية كمنسق عام للعمليات العسكرية بين مختلف أفرع القوات المسلحة. بصفته قائدًا سابقًا لمقر “خاتم الأنبياء”، كان مسؤولًا عن التخطيط العملياتي المشترك، ومقربًا من خامنئي بشكل لافت. وهو أحد أبرز الأسماء التي طالتها العقوبات الغربية لدوره في نقل تكنولوجيا الطائرات المسيّرة إلى روسيا. مقتله يعني اختلالًا في التنسيق الأفقي داخل المؤسسة العسكرية، في وقت تحتاج فيه طهران بشدة إلى توحيد جبهتها الدفاعية.
سقوط العمود العلمي: استهداف العلماء النوويين
لم تكن الأهداف العسكرية وحدها في مرمى الطائرات الإسرائيلية. فالهجوم الأخير شمل أيضًا اثنين من أعمدة المشروع النووي الإيراني: محمد مهدي طهرانجي وفريدون عباسي.
طهرانجي، رئيس جامعة “آزاد الإسلامية”، كان يشرف على برامج بحثية ترتبط عضوياً بالبنية التحتية العلمية للمشروع النووي. أما عباسي، الرئيس السابق لمنظمة الطاقة الذرية، فكان من الشخصيات التي تثير حفيظة الغرب منذ سنوات، نظراً لتخصصه في فصل النظائر بالليزر، وهو المجال الذي يرتبط مباشرة بعمليات التخصيب. نجاته من محاولة اغتيال في 2010 لم تكن كافية هذه المرة، ليُغتال ضمن حملة تستهدف تعطيل العمق الأكاديمي والتقني للمشروع النووي الإيراني.
مأزق القيادة: هل تعيد طهران ترتيب أوراقها أم تدخل دوامة تصعيد؟
اغتيال هذه المجموعة المتنوعة من القادة والعلماء يضع النظام الإيراني أمام اختبار استثنائي. ففقدان كوادر بهذا الحجم وفي هذا التوقيت الحرج يهدد ليس فقط الفعالية العملياتية للمؤسسات العسكرية، بل كذلك قدرة طهران على ترميم شبكات القيادة بسرعة.
في ظل هذا الواقع، تبدو خيارات إيران محدودة. فهي إما أن تسارع إلى إعادة ترتيب صفوفها عبر تصعيد وجوه جديدة قد لا تحظى بنفس الشرعية الداخلية، أو أن تدخل في دوامة تصعيد خطير يعيد تشكيل معادلات الردع الإقليمي. السؤال الكبير الآن لم يعد إن كانت إيران سترد، بل كيف، ومتى، وبأي ثمن؟