بيان المجلس الوطني الفلسطيني الأخير يعكس تصعيدًا واضحًا في الخطاب السياسي والمؤسساتي الفلسطيني في مواجهة آلة العدوان الإسرائيلي التي تستهدف المدنيين بشكل ممنهج، لا سيما بعد الجريمة المروعة التي ارتُكبت في منطقة المواصي غرب خانيونس، حيث تم قصف خيام نازحين، ما أدى إلى استشهاد عشرين مدنيًا حرقًا، معظمهم من النساء والأطفال. هذه المجزرة ليست حالة استثنائية في سياق العدوان، بل تمثل استمرارًا لنهج الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، كما يؤكد المجلس في بيانه.
فضح جرائم الاحتلال
تحركات المجلس الوطني في هذا السياق ترتكز على أربعة مسارات متداخلة: فضح جرائم الاحتلال، وتوثيق خطاب التحريض الإسرائيلي، ومطالبة المؤسسات الدولية بتحمل مسؤولياتها، وربط الجرائم بحق الفلسطينيين بانهيار المنظومة القانونية الدولية.
في المسار الأول، يعمد المجلس إلى تأطير الجرائم الإسرائيلية كجزء من سياسة إبادة متعمدة، وليس مجرد “أضرار جانبية” في سياق الحرب، مستندًا إلى الأدلة الميدانية والتصريحات العلنية التي يدلي بها جنود وضباط الاحتلال عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات إعلامية. هذه الخطوة تشكل جزءًا من الجهد الفلسطيني لإعادة تعريف ما يجري في غزة والضفة الغربية كجرائم ضد الإنسانية، وليس نزاعًا مسلحًا تقليديًا.
الضغط على الجنائية الدولية
أما المسار الثاني، فيتعلق بكشف طبيعة العقيدة القتالية داخل الجيش الإسرائيلي، والتي باتت تتبنى بشكل علني لغة عنصرية وتحريضية ضد المدنيين الفلسطينيين، وخاصة الأطفال. هنا يركز المجلس على التوثيق المباشر للتصريحات التي تنقل بوضوح نية مسبقة في استهداف الأطفال بوصفهم “أهدافًا مشروعة”، وهو ما يدخل ضمن إطار “التحريض على الإبادة الجماعية” بموجب القانون الدولي.
ويشكل هذا التوثيق المدخل الأساسي لتحرك المجلس في المسار الثالث، حيث طالب المحكمة الجنائية الدولية بفتح تحقيق عاجل في هذه التصريحات والانتهاكات، باعتبارها جريمة مكتملة الأركان، معززة بالأدلة العلنية والشهادات المصورة. المجلس يحاول بذلك الضغط على الجنائية الدولية للإسراع في تنفيذ ولايتها القانونية وعدم الاستمرار في حالة التراخي التي اتسمت بها مواقف المحكمة تجاه الملفات الفلسطينية طوال السنوات الماضية.
فشل النظام الدولي
وفي المسار الرابع، يربط المجلس بين الجرائم الجارية في غزة والضفة وبين فشل النظام الدولي في إنفاذ القوانين والمعاهدات التي أُنشئت لحماية الشعوب ومنع الجرائم الجماعية. هذا الربط مهم لأنه يُحمّل المجتمع الدولي مسؤولية مزدوجة: ليس فقط لعدم وقف الحرب، بل لأنه يشكل غطاءً غير مباشر عبر استمرار بيع السلاح وتقديم الدعم السياسي والعسكري لدولة الاحتلال، متجاهلًا انتهاكها الصارخ للقانون الدولي.
ومن خلال البيان، يؤكد المجلس أن هذه الجرائم لن تنال من عزيمة الشعب الفلسطيني، بل تزيده إصرارًا على التمسك بحقوقه، ما يشكل بعدًا معنويًا مهمًا في هذه المرحلة، عبر إعادة إنتاج الخطاب الوطني الجامع الذي يربط مقاومة الشعب على الأرض بتحرك مؤسساته التمثيلية في الساحات الدولية.
إعادة الاعتبار للفلسطيني
المجلس الوطني الفلسطيني، بصفته الهيئة العليا التمثيلية للشعب الفلسطيني، يتخذ بهذا الموقف موقعًا متقدمًا في المعركة السياسية والقانونية والدبلوماسية ضد الاحتلال. وهو يسعى إلى نقل النقاش من دائرة “وقف إطلاق النار” فقط، إلى دائرة أوسع تشمل الملاحقة والمحاسبة وإعادة الاعتبار للفلسطيني كصاحب حق محمي بالقانون الدولي.
وفي ظل استمرار عجز مجلس الأمن وتواطؤ بعض القوى الكبرى، فإن هذه التحركات تمثل محاولة لترسيخ سردية سياسية وقانونية بديلة، تحرج الدول المتواطئة وتدفع نحو تدويل الجريمة بصفتها قضية إنسانية وأخلاقية عالمية تتجاوز حدود الصراع الفلسطيني الإسرائيلي التقليدي.