تصريح المستشار الألماني فريدريش ميرتس بأن إسرائيل “تقوم بالعمل القذر من أجلنا جميعاً” لم يكن مجرد عبارة عابرة في خضم الصراع الدائر بين إسرائيل وإيران، بل يعكس رؤية أعمق لطبيعة الدور الإسرائيلي في الشرق الأوسط من منظور بعض القوى الغربية، وخاصة ألمانيا. هذا التصريح، كما حلّله الكاتب الفلسطيني عودة بشارات في صحيفة “هآرتس”، يسلّط الضوء على بُعد أخلاقي وسياسي متشابك، تتقاطع فيه مصالح الغرب الاستراتيجية مع طموحات إسرائيل الإقليمية.
إسرائيل والمهام القذرة
الكاتب يقرأ هذه العبارة بوصفها إقراراً صريحاً من ميرتس بأن إسرائيل ليست مجرد حليف للغرب، بل مقاول فرعي يتولى تنفيذ المهام الصعبة أو “القذرة” بالنيابة عن القوى الغربية، التي تفضل البقاء في الظل تجنباً لتبعات الانخراط المباشر. وهنا، يتحدث بشارات عن إشكالية أخلاقية، إذ يرى أن الغرب، بدلاً من الدفاع عن قيمه بنفسه، أوكل المهمة لدولة تملك الاستعداد الكامل لاستخدام القوة بلا حدود، تحت غطاء الدعم الغربي السياسي والعسكري.
المثير في تحليل بشارات أنه لم يجد في الأوساط الإسرائيلية صوتاً واحداً يعارض هذا التوصيف، وهو ما رآه دلالة على التماهي الإسرائيلي مع هذا الدور. ويتساءل الكاتب بدهشة، هل هذه هي الدولة التي نشأت لتكون ملاذاً آمناً ليهود أوروبا بعد معاناة طويلة من الاضطهاد؟ وهل باتت “دولة الشعب الحر في أرضه”، وفق تعبير النشيد الوطني الإسرائيلي، تُعرّف نفسها اليوم بوصفها أداة تنفيذ لسياسات خارجية لا تعبّر بالضرورة عن مصلحتها القومية، بقدر ما تعبّر عن رغبات الحلفاء؟
محاربة معاداة السامية
يُعيد الكاتب سرد الأحداث التاريخية، مثل مشاركة إسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، كدليل مبكر على أداء هذا الدور الوظيفي للغرب. فهو يرى في ما حدث حينها نموذجاً أولياً لتحالفات تتكرر حتى اليوم: قوى أوروبية تريد الحفاظ على نفوذها، فتستخدم إسرائيل لتنفيذ أجنداتها الإقليمية. ومع ذلك، لا يتوقف الكاتب عند الماضي، بل يربط بين دعم الغرب لإسرائيل تاريخياً وتعويضه عن جرائم المحرقة من جهة، وبين تسخير هذا الدعم لاحقاً لتقوية آلة عسكرية باتت تمارس “التمييز والاحتلال” بحسب وصفه.
ومن هنا ينتقل إلى نقد جذري لفهم الغرب لما يُسمى “محاربة معاداة السامية”، متسائلاً إن كانت هذه المحاربة لا تزال تُستخدم ذريعة لدعم سياسات إسرائيل دون مساءلة. بشارات يذهب إلى أن الزمن الذي وُجد فيه اليهود مضطهدين قد ولّى، وأن استخدام تجارب الماضي لتبرير الحاضر الدموي أمر لم يعد مقبولاً.
النقد لا يقتصر على إسرائيل وحدها، بل يمتد ليشمل الأنظمة “البغيضة” – كما يسميها – في المنطقة والعالم، التي تسعى لقمع معارضيها عبر وسائل إسرائيلية مثل برامج التجسس المتاحة بسهولة. ما يفعله بشارات هو تعرية لشبكة العلاقات التي تُبنى على تبادل الخدمات الأمنية والاستراتيجية، حيث تتحوّل إسرائيل إلى مُصدّر للأدوات القمعية لا فقط إلى دول الغرب، بل إلى دول تُمارس الاستبداد علناً.
إسرائيل مشروع أمني غربي
ما يجعل هذا المقال لافتاً، ليس فقط مضمونه النقدي، بل الغضب الهادئ الذي يتخلله. فبشارات لا يصرخ، لكنه يمرر سخرية لاذعة، حين يقول إنه كان يعتقد أن كرم ألمانيا تجاه إسرائيل كان نابعاً من إحساس أخلاقي، لكن تصريحات ميرتس كشفت “الشر الكامن” خلف هذا الكرم. وهنا يتجلى شعور بالخيانة التاريخية، وكأن الغرب لا يُكفّر عن جرائمه ضد اليهود، بل يستثمرها في تمكين دولة اختارت أن تصبح قوة غاشمة بدلاً من أن تكون نموذجاً للحرية والسلام.
يقدم الكاتب رؤية قاتمة عن الحاضر، مشيراً إلى أن إسرائيل اليوم تقف على حافة انقلاب سياسي داخلي يعيد إلى الأذهان “فترات مظلمة في التاريخ”، محملاً مسؤولية ذلك للغرب الذي لم يتوقف عن دعمها دون شروط. وبهذا، تصبح إسرائيل في تحليله لا دولة تفرض سيادتها فقط، بل تمثل مشروعاً أمنياً وسياسياً ممتداً للغرب، بثمن باهظ تدفعه شعوب المنطقة، وأحياناً شعوبها نفسها.