في منعطف جديد من فصول الحرب المشتعلة على غزة منذ أكثر من تسعة أشهر، أعلنت قناة إسرائيلية بارزة أن المفاوضات الجارية في العاصمة القطرية الدوحة بين إسرائيل وحركة حماس، عبر وسطاء دوليين، قد أحرزت تقدمًا “دراماتيكيًا” خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية، مرجّحة أن الطريق بات ممهّدًا نحو إبرام اتفاق مبدئي لصفقة تبادل أسرى تترافق مع وقف إطلاق نار مؤقت.
ورغم أن التفاصيل لا تزال شحيحة، فإن اللغة التي استخدمتها القناة الـ13 الإسرائيلية عكست حالة تفاؤل نادرة في الخطاب الرسمي والإعلامي الإسرائيلي، وذهبت إلى حد الحديث عن “تليين” في مواقف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، لا سيما في ما يتعلق بمستقبل الوجود العسكري الإسرائيلي داخل قطاع غزة.
نتنياهو يلين… ولكن بشروط
مصدر إسرائيلي مطّلع، نقلت عنه القناة ذاتها، أكّد أن رئيس الوزراء “صادق على مرونة إضافية” في ملف انسحاب القوات من القطاع، ما فتح الباب أمام تليين في المحادثات، وساهم في تحريك الجمود الذي ساد جولات التفاوض السابقة.
ورغم أن الحديث يدور – وفقًا للمصدر – عن انسحاب مؤقت لمدة 60 يومًا فقط، فإن مجرد القبول بهذا المقترح يمثّل تغييرًا في نبرة نتنياهو، الذي ظلّ يؤكد علنًا أن الحرب لن تتوقف قبل “تصفية التهديدات”، وأن الجيش لن يغادر غزة قبل “تحقيق كامل الأهداف”.
لكنّ هذه المرونة المعلنة لم تكن دون تحفظات. فالمسؤولون الذين تحدثت إليهم القناة شددوا على أن وقف إطلاق النار سيكون مؤقتًا، وأن النية في تل أبيب لا تزال قائمة للعودة إلى القتال بعد انتهاء فترة التهدئة، ما يضع علامة استفهام كبيرة على مفهوم “وقف الحرب” الذي تطالب به حماس، وترعاه قطر، وتدعمه أطراف دولية أخرى على رأسها واشنطن.
رغبة في الصفقة… لا في السلام
المفارقة التي التقطها المراقبون في إسرائيل وواشنطن على حد سواء، هي أن نتنياهو، وفق تعبير أحد المسؤولين، “يرغب بشدة في إتمام الصفقة، لكنه لا يرغب في إنهاء الحرب”. هذه العبارة المقتضبة تكشف حجم التعقيد في العقل الإسرائيلي الرسمي: سعي محموم نحو إخراج الأسرى الإسرائيليين من قبضة حماس، يقابله تمسك بالاستراتيجية العسكرية القائمة على استنزاف غزة وتكريس واقع أمني جديد داخل القطاع.
من هذا المنظور، لا يبدو أن إسرائيل تتفاوض على صفقة تنهي الحرب، بل على هدنة محسوبة الزمن تُسخّر لتسجيل إنجاز سياسي داخلي، في وقت يواجه فيه نتنياهو ضغوطًا متصاعدة من عائلات الأسرى، ومن ائتلاف حكومي متشظي، ومن معارضة تلوّح بتحميله مسؤولية استمرار النزيف العسكري والبشري.
الوساطة القطرية: تفاؤل حذر وضغوط مستمرة
من جانبها، خرجت الدوحة برسائل أقل حماسة، لكنها لم تنف التقدّم. المتحدث باسم الخارجية القطرية ماجد الأنصاري، وفي مؤتمر صحفي رسمي، أكد أن المفاوضات لا تزال في “مرحلتها الأولى”، مضيفًا أن فرق التفاوض لا تزال موجودة في الدوحة، وأنه لا يوجد حتى الآن إطار زمني محدد للزيارة المرتقبة للمبعوث الأميركي ستيف ويتكوف.
كلمات الأنصاري اختارت الانضباط والواقعية، فبعيدًا عن لهجة الانتصار الإعلامي، حافظت الدوحة على مقاربتها الهادئة، التي تجنّبت إطلاق أي وعود تتجاوز ما تسمح به المعطيات الميدانية. فالدوحة، وإن كانت تضطلع بدور محوري في تقريب وجهات النظر، تدرك أن نجاح الصفقة يتطلب توافقًا معقّدًا بين ثلاثة مستويات: مطالب حماس، وهواجس إسرائيل، ومواقف الولايات المتحدة الراعية للضمانات.
صفقة أم استراحة قتالية؟
السؤال الذي يتكرر اليوم في أروقة التفاوض وأروقة القرار معًا: هل نحن أمام صفقة أسرى شاملة تنهي القتال، أم أمام استراحة مؤقتة تستغلها إسرائيل لإعادة ترتيب أوراقها؟ المعلومات المتداولة حتى الآن ترجّح السيناريو الثاني. إذ لا شيء في تصريحات تل أبيب يوحي بنيّة التراجع الكامل عن العمليات، كما أن التلميحات إلى “العودة للقتال بعد 60 يومًا” تُفهم بوضوح على أنها رسالة لحماس بأن المواجهة لم تنتهِ، بل مؤجلة.
في المقابل، تبدو حماس مدركة لهذا التوجه، ما يفسر تحفظها على تصريحات إعلامية احتفالية أو انتصار وهمي. فالحركة، التي تتفاوض من موقع الطرف الصامد رغم الدمار الهائل، تدرك أن ما يُعرض ليس اتفاق سلام، بل صفقة تتيح للجانبين التقاط الأنفاس دون تقديم تنازلات استراتيجية.
بين مفاوضات مضنية وتفاهمات غامضة، تبدو “المرونة” الإسرائيلية خطوة تكتيكية لا تحوّلًا جوهريًا. ومع بقاء الحرب مشرعة على سيناريوهات مفتوحة، فإن ما يدور في الدوحة اليوم قد يكون بداية الطريق نحو الهدنة، لكنه بالتأكيد ليس نهاية الحرب. في الانتظار، لا تزال غزة تدفع الثمن الأكبر، بينما يختبر الوسطاء قدرة السياسة على تجاوز ما لم تستطع المدافع حسمه.