بينما تتقدّم جهود الوساطة التي تقودها قطر ومصر، وتُفتح بوادر لمحادثات غير مباشرة بين إسرائيل وحماس، تبرز مفارقة صارخة في الخطاب الذي تتبناه الحركة، خاصة في ظل إصرارها على تسويق عمليات استهداف جنود إسرائيليين كمؤشر على “صمود” أو “انتصار”، رغم الكلفة الإنسانية الكارثية التي يتحملها المدنيون في قطاع غزة.
مساحة للمناورة
إن تصوير هذه العمليات المحدودة كـ”إنجازات ميدانية”، في وقت يتعرض فيه أكثر من مليوني فلسطيني للحصار والجوع والقصف، لا يُقنع حتى أكثر المتعاطفين مع الخطاب المقاوم. فالنتائج على الأرض تشير إلى انهيار شبه شامل في البنية التحتية، ودمار واسع طال الأحياء السكنية، واستشهاد الآلاف وتهجير مئات الآلاف، ما يجعل من لغة “النصر” في هذا السياق أقرب إلى إنكار الواقع منه إلى قراءة سياسية عقلانية.
حماس تجد نفسها الآن أمام معادلة بالغة التعقيد: من جهة، حاجتها للحفاظ على “رصيد المقاومة” أمام جمهورها المحلي وقاعدتها الإقليمية، ومن جهة أخرى، ضغوط سياسية وشعبية متزايدة لإظهار مرونة تسمح بإنهاء المعاناة اليومية لسكان غزة. والمفارقة أن اللحظة الراهنة – بعد وقف إطلاق النار مع إيران – قد تتيح للحركة مساحة للمناورة، إذا ما أحسنت تقدير التوقيت والرسائل السياسية.
التمسك بالسلطة
السؤال المحوري الآن: هل ستُظهر حماس مرونة كافية للانخراط بجدية في مفاوضات تهدف إلى تثبيت هدنة طويلة، وربما التوصل إلى صفقة تبادل أسرى وإعادة إعمار القطاع؟ أم أنها ستتمسك بموقعها كسلطة أمر واقع، وتواصل الاشتباك السياسي والعسكري في سبيل الإبقاء على نفوذها؟
الإشارات الأولية لا توحي بتغيّر جذري في الخطاب، وإن كانت هناك مؤشرات لبعض التراجع التكتيكي، بدافع الحاجة الإنسانية والضغوط الإقليمية. غير أن هذا غير كافٍ، ما لم تقم حماس بمراجعة حقيقية لأدائها السياسي والعسكري، وتُعيد النظر في أولوياتها، خصوصًا أن ثمن التمسك بالسلطة بات يُدفع من دماء وأرزاق المدنيين الذين لا يملكون قرار الحرب ولا قدرة التفاوض.
شعارات الصمود
في مرحلة ما بعد الحرب، لن تكون شعارات الصمود وحدها كافية، ولن يُقاس النصر بعدد الصواريخ أو الجنود المستهدفين، بل بقدرة الحركة على أن تكون جزءًا من حلّ حقيقي يحفظ كرامة الغزيين ويؤسس لمستقبل سياسي أكثر شمولية وعدلاً. التحدي الأكبر أمام حماس اليوم ليس في جبهات القتال، بل في قدرة قيادتها على أن تكون طرفًا مسؤولًا في مفاوضات لا تحتمل ترف المناورات السياسية.