مع دخول الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة يومها الـ640، تتكشف ملامح مأساة غير مسبوقة في العصر الحديث، مأساة تتجاوز أرقام الضحايا والدمار، لتلامس جوهر الإبادة وسحق الكيان الإنساني في أكثر صوره فظاعة. لم يعد القصف مجرد فعل عسكري يستهدف الخصم في ساحة معركة، بل تحول إلى منظومة قتل ممنهجة تطال الأطفال والنساء، والمدارس والمستشفيات، والمخيمات ومراكز الإيواء، وحتى وسائل النقل البدائية التي لجأ إليها السكان بعد أن دمرت جميع وسائل البنية الأساسية.
إنهار الحد الفاصل بين الحرب وبين الجريمة المنظمة، فكل ما يحدث في قطاع غزة منذ أكتوبر 2023 وحتى اليوم، هو اجتياح شامل للحياة الفلسطينية بكل أشكالها. مشاهد الجثث المتناثرة تحت الأنقاض، والضحايا الذين يُنقلون على عربات تجرّها الخيول، لم تعد مشاهد استثنائية، بل صارت المشهد اليومي المعتاد الذي يتكرر عشرات المرات في اليوم الواحد، حتى بات سكان القطاع يتعاملون مع الموت كجزء من روتينهم المعيشي، لا كفاجعة طارئة.
تضاعف شراسة الغارات الإسرائيلية
الصور ومقاطع الفيديو التي تناقلها الناشطون على منصات التواصل الاجتماعي في الساعات الأخيرة لم تعد بحاجة إلى تعليق أو تحليل. طفل يصرخ بجانب جثة والدته، مسعف يبكي لأن يديه لم تعد تكفي لإنقاذ من تبقّى، منزل يُسحق فوق ساكنيه، وسيدة تُخرج ابنها الرضيع من تحت الردم وتصرخ “لسّا دافي”، كل هذا لا يُعدّ تغطية إعلامية عاطفية، بل وثائق دامغة على أن ما يحدث هو إبادة منظمة في وضح النهار.
وتزداد وطأة المجازر مع كل إشارة لاقتراب وقف لإطلاق النار. فكلما بدا أن هناك أفقاً لتهدئة، تضاعفت شراسة الغارات الإسرائيلية، في ما يمكن وصفه بأنه “تسريع لوتيرة القتل قبل أن ينفد الوقت”. مجزرة مدرسة أبو عاصي في مخيم الشاطئ، وقصف عشرات المناطق السكنية المكتظة، تؤكد أن الاحتلال يستهدف التجمعات المدنية متعمداً، في تحدٍ صارخ لكل القوانين الدولية والأعراف الإنسانية.
شهادات الناجين لا تقل صدمة عن الصور. ناشط كتب: “لا وسع في ثلاجات الموتى”، وآخر قال: “بيوت تسحق على رؤوس ساكنيها.. قصف متواصل وليل لا ينتهي”. هذه الكلمات ليست مجرد شكاوى عاطفية، بل تعبيرات دقيقة عن انهيار كامل للمنظومة الصحية والإنسانية في غزة. ومع انهيار المستشفيات ونفاد الوقود والمستلزمات الطبية، بات من المستحيل حتى إحصاء الضحايا بدقة، إذ تُدفن العائلات جماعياً دون أن تُعرَف أسماؤهم، ويُسجّل كثير من الشهداء كمفقودين.
إحصاءات حرب
كل هذا يجري وسط صمت دولي مطبق، صمت يتواطأ مع الجريمة، إن لم يكن جزءاً منها. تجاوز عدد الشهداء حاجز الـ57 ألفاً، فيما أصيب أكثر من 135 ألفاً، وتشرد ملايين، وتحولت غزة إلى ركام. ولكن اللافت أن المجتمع الدولي لا يزال يتعامل مع هذه الأرقام وكأنها مجرد “إحصاءات حرب”، لا أرقام جريمة ضد الإنسانية.
النكبة الجديدة التي تعيشها غزة اليوم تفوق في أبعادها النكبة الأولى عام 1948، ليس فقط من حيث الأرقام، بل من حيث المنهجية. فالحرب لم تترك مساحات آمنة، ولا مخيمات للاجئين، ولا حتى دور عبادة أو مدارس أو مستشفيات إلا واستهدفتها. والهدف بات واضحاً: جعل القطاع غير صالح للحياة، وخلق بيئة طاردة للبقاء، حتى يدفع الناس للرحيل القسري، إما جنوباً نحو الحدود، أو غرباً نحو البحر.
شرعية القانون الدولي
لكن أمام هذا الإعصار من الدمار، يبرز وجه آخر لغزة: وجه الصمود. فبرغم الحصار، وبرغم الخذلان العالمي، ما زال السكان يوثقون، ويبكون، ويغضبون، ويتمسكون بما تبقى من بيوتهم، ومن ذاكرتهم، ومن حقهم في الحياة. لقد تحوّل الناجون إلى شهود، وتحولت كلماتهم وصورهم إلى سلاح في معركة الوعي، تحرج كل من يصمت، وتدين كل من يتجاهل.
إن ما يجري في غزة اليوم ليس مجرد فصل دموي من فصول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل لحظة مفصلية في التاريخ الإنساني الحديث. لحظة تُختبر فيها شرعية القانون الدولي، وصدقية الخطاب الحقوقي، وقيمة الإنسان. فإما أن ينتصر العالم لإنسانيته، أو يقبل بأن يعيش في زمن تُبث فيه الإبادة الجماعية على الهواء مباشرة، دون أن يرتجف له ضمير.