تواجه القضية الفلسطينية، في ظل العدوان المستمر على قطاع غزة، أخطر مراحلها منذ عقود، ليس فقط من حيث شراسة العنف الإسرائيلي، بل من حيث تغيّر طبيعة الصراع وتآكل المنظومة الدولية التي كانت تضفي حدًا أدنى من التوازن أو الحماية الرمزية للشعب الفلسطيني. ما تشهده غزة ليس مجرد تصعيد عسكري، بل مرحلة جديدة من الصراع تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع الفلسطيني برمّته، وتفريغه من مضمونه النضالي والوطني والإنساني.
كسر الإرادة الفلسطينية
التصريحات التي أدلى بها الدكتور أحمد رفيق عوض تسلط الضوء على تحول خطير في نهج الاحتلال، حيث لم يعد الهدف المباشر هو فقط تحرير الرهائن أو تقويض القدرات العسكرية للمقاومة، بل أصبح المشروع الأعمق هو كسر الإرادة الفلسطينية وتفكيك الهوية الجماعية لسكان القطاع. عبر قصفٍ مكثف ومتواصل يستهدف المدنيين والبنية التحتية الإنسانية، تُستخدم المعاناة كسلاح، لتجبر المقاومة – وسكان غزة ككل – على الاستسلام أو الانهيار تحت وطأة الحصار والقصف والتجويع.
واحدة من أخطر ما يواجه القضية الفلسطينية اليوم هي عملية نزع الشرعية الأخلاقية عن الشعب الفلسطيني، حيث تعمل إسرائيل، بدعم ضمني أو صريح من بعض القوى الدولية، على شيطنة المقاومة وتعميم صورة الفلسطيني كمصدر تهديد، لا كضحية احتلال. هذه السردية الجديدة تسوّغ استخدام القوة المفرطة، وتعزز الصمت الدولي، وتضع الشعب الفلسطيني في موقع المدان سلفًا.
فراغ دولي متعمد
تستخدم إسرائيل أدوات الحصار كسلاح حرب صريح: الغذاء، الدواء، الكهرباء، المياه، والتعليم، كلها أصبحت ضمن بنك الأهداف. استهداف المستشفيات، مراكز الإيواء، المدارس، وحتى الكنائس والمساجد، لا يترك للفلسطيني سوى خيارين: النزوح أو الموت. هذه الاستراتيجية تهدف إلى إنتاج واقع سكاني مشوّه ومفكك، تمهيدًا إما للتهجير أو فرض تسوية مشوهة، لا تتضمن دولة فلسطينية مستقلة، بل كانتونات مقطعة ومعزولة بلا سيادة ولا أفق سياسي.
كما أن الفراغ الدولي المتعمد – المتمثل في منع دخول المنظمات الحقوقية ووسائل الإعلام الدولية – يسمح لإسرائيل بارتكاب انتهاكات دون رقابة أو محاسبة. هذا الغياب لا يشكل فقط خيانة إنسانية، بل يعمّق عزلة القضية الفلسطينية، ويجعل من المعاناة اليومية أمرًا معتادًا في الإعلام العالمي، يمرّ كخبر عابر بلا أثر.
تصفية الوجود الفلسطيني
تُضاف إلى ذلك مخاطر التآكل الداخلي: فالاستنزاف المستمر، القتل الجماعي، وتدمير كل أمل في مستقبل آمن، قد يؤدي إلى انزلاق قطاعات من الشعب الفلسطيني إلى اليأس أو الانكسار أو الانقسام. وهو ما يشكل تهديدًا وجوديًا للقضية كهوية جماعية ومشروع سياسي ووطني.
في ضوء هذا الواقع، القضية الفلسطينية اليوم لا تواجه فقط احتلالًا عسكريًا، بل مشروعًا متكاملًا لطمس الهوية، ومحو التاريخ، وتصفية الوجود الفلسطيني من الأرض ومن الوعي العالمي. وإذا لم يُقابل هذا المشروع بإرادة فلسطينية موحدة ودعم دولي حقيقي، فإن أخطر ما قد يحدث ليس فقط احتلال الأرض، بل تشويه الرواية، وموت الأمل، وتفريغ الكفاح من مضمونه العادل.